شهد العالم أحداث حرب تسارعت خطواتها، واتسعت دائرتها، وكثر أطرافها، وهي حرب غير أخلاقية ولا إنسانية، ولا يكاد المرء يصدق ما وقع فيها وجرى على ألسنة الساسة والزعماء من تصريحات وأقوال تعود بنا إلى شريعة الغاب، التي يأكل فيها القوي الضعيف، وتسقط معها كل المواثيق والمعاهدات الدولية والأممية.
إن أي حضارة، مهما امتلكت من أسباب القوة، إذا كانت تحابي في تطبيق القانون فحضارتها إلى أفول وزوال؛ فواجب المسلم أمام هذه الحروب والصراعات أن ينحاز دائمًا إلى المظلوم والمعتدى عليه، وألا يؤيد الظلم والبغي ولو بشطر كلمة
والمؤلم حقًا في هذا المشهد هو غياب حضارتنا الإسلامية بقيمها وأخلاقها الحربية، وغايات ومقاصد القتال فيها، وأن يختلف المسلمون اليوم حول ما يجب أن يتفقوا عليه. ومع سرعة تناقل الأخبار وسيولتها تغيب الحكمة وتُفقد البوصلة وتختلط الأمور عند الناس؛ لهذا وجب التذكير بجملة من الركائز في زمن الفتن والأزمات وأهمها ما يلي:
الاجتماع على مقاومة الظلم وإقامة العدل
إن من ثوابت المرحلة التي لا يجب الاختلاف حولها رفض الظلم والعدوان بغير حق على المستضعفين والأبرياء، والسعي إلى إقامة العدل ومقاومة البغي والظلم؛ فالظلم أهم سبب لهلاك الأمم وفنائها، وزوال الحضارات واندثارها.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يونس: 13] ، وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ [الكهف: 59]، وقال تعالى: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ [الحج: 45].
وأشد أنواع الظلم التي نراها بأم أعيننا الآن المحاباة في تطبيق القانون؛ فالدول الكبرى التي يُفترض أن تحمي المستضعفين، وأن تُلزم الجميع باحترام القوانين والمواثيق الدولية، هي أول من يحابي في تطبيق القوانين، ويقف في صف المستكبرين القتلة، وهذا عين ما حذر منه النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة (رضي الله عنها)، الذي أخرجه البخاري في صحيحه، وذلك "أنّ قريشًا أهمَّهم شأْن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلِّم فيها رسول اللَّه- صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول اللَّه- صلَّى الله عليه وسلم؟ فكلَّمه أسامة، فقال رسول اللَّه- صلَّى الله عليه وسلم-: أتشفع في حَدٍّ من حدود اللَّه؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ اللَّه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها".
ولهذا فإن أي حضارة، مهما امتلكت من أسباب القوة، إذا كانت تحابي في تطبيق القانون فحضارتها إلى أفول وزوال؛ فواجب المسلم أمام هذه الحروب والصراعات أن ينحاز دائمًا إلى المظلوم والمعتدى عليه، وألا يؤيد الظلم والبغي ولو بشطر كلمة أو حتى بقلبه، وألا ينشغل بظلم عن ظلم، فالحرب والقتل لم يتوقف عن أهلنا في غزة، بل وقعت لهم المجازر أثناء حصولهم على الخبز وقليل القليل من الطعام! ويجب ألا تشغلنا الحرب على إيران عن الحرب والمذابح في غزة الأبية.
حذر النبي- صلى الله عليه وسلم- من تداول الأخبار دون توثيق، فقال فيما أخرجه البخاري في الأدب المفرد: "بئس مطية الرجل زعموا"، وهو ما يفعله الناس اليوم في تداول أخبار الحرب وتسأله عن المصدر فيقول: سمعت.. كما وصلني.. وجدتها على قارعة الفيسبوك!
التثبت والتبين
مع هذه السيولة الإخبارية منذ بدأت الحرب، ومع تحول كل صاحب حساب خاص إلى محلل سياسي، ومع ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي صار أكبر تحدٍّ معها هو التثبت من صحة الفيديو أو الصورة قبل بناء الأحكام عليها.. مع هذا الحال، نحتاج إلى التأكيد على مبدأ التثبت والتبين قبل تداول الأخبار والتحليلات، وهذا مبدأ إسلامي أصيل، خاصة في أوقات الأزمات والفتن؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].
وقد أنكر القرآن الكريم على أهل النفاق في حادثة الإفك تداولهم الأخبار دون تثبت أو تبين؛ قال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15]. والتلقي عادة يكون بالأذن أولًا، لكن الآية هنا تبين أنهم لا يفكرون فيما يرددون بألسنتهم، وقد فعَّل النبي- صلى الله عليه وسلم- منهج التثبت والتبين عندما بلغه ما بلغه عن زوجه السيدة عائشة (رضي الله عنها) في حادثة الإفك فقال لها: "أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا…".
وقد حذر النبي- صلى الله عليه وسلم- من تداول الأخبار دون توثيق، فقال فيما أخرجه البخاري في الأدب المفرد: "بئس مطية الرجل زعموا"، وهو ما يفعله الناس اليوم في تداول أخبار الحرب وتسأله عن المصدر فيقول: سمعت.. كما وصلني.. وجدتها على قارعة الفيسبوك!
وضع الإمام ابن حزم ميزانًا دقيقًا يعين على الإنصاف فقال: "من أراد الإنصاف، فليتوهّم نفسه مكان خصمه؛ فإنه يلوح له وجه تعسُّفه"
الإنصاف والتجرد
الإنصاف كما قيل هو خير الأوصاف، وهو أمر عزيز نادر في زماننا. وإذا كان الإمام مالك -رحمه اللَّه تعالى- قال: "ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف". يقول ذلك مالك عن زمنه وهو قد عاش في القرن الثاني الهجري، حيث كثرة التابعين والأئمة المتبوعين، فماذا عسانا أن نقول نحن اليوم عن زماننا؟!
وقد وضع الإمام ابن حزم ميزانًا دقيقًا يعين على الإنصاف فقال: "من أراد الإنصاف، فليتوهّم نفسه مكان خصمه؛ فإنه يلوح له وجه تعسُّفه". وقال ابن القيِّم: "الإنصاف أَن تكتال لمُنازعك بالصاع الذي تكتال به لنفسك؛ فإن في كل شيءٍ وفاءً وتطفيفًا".
وقد أُمرنا الله بالعدل والإنصاف حتى مع خصومنا وأعدائنا؛ قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]. ورحم الله أبا أيوب الأنصاري؛ عندما نقلت له أم أيوب ما يقال ويشاع عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- أثناء حادثة الإفك، قال: يا أم أيوب! أكنت فاعلة؟ قالت: لا والله، فقال: فلَعائشة خير منك، ولرسول الله- صلى الله عليه وسلم- خير مني، وهذا من تمام عدله وإنصافه، رضي الله عنه.
وقد ظهرت قلة الإنصاف في هذه الحرب الظالمة؛ فاتخذ البعض ما ارتكبته المليشيات الطائفية في الشام من جرم وخطيئة وسفك للدماء ذريعة للتشفي فيهم، وتمني هزيمتهم وزوالهم، والتسوية بينهم وبين من بدأ بقتالهم، وهذا ليس من الإنصاف وليس من العدل في شيء، فإن تأييدهم في موقف ظلموا فيه لا يعني تأييدهم بالمطلق، فعلينا أن ننكر ظلمهم وبغيهم، وأن نذكر حسناتهم إن كانت؛ فالحجاج بن يوسف الثقفي كان طاغية ظالمًا سفاكًا للدماء، ولكن كانت له حسنات ومواقف تذكر له مع سيئاته ومظالمه من باب الإنصاف والعدل.
إن الوعي بالواقع والتاريخ والمآلات لا ينتج ما يروج في شبكات ومواقع التواصل من مواقف غير متوازنة، وغير عاقلة، وغير محسوبة العواقب والتبعات
الوعي بالواقع والتاريخ والمآلات
إن الوعي بالواقع والتاريخ والمآلات ضروري في كل الأوقات والأحوال، لكن العناية به آكد في الأزمات والفتن، وقد كشفت الحرب على إيران قلة وعي بالأمور الثلاثة، فرأينا تناقضات وتطرفًا من بعض المسلمين بشكل لا يعكس درجة الوعي المطلوبة، وصل إلى حد تمني انتصار من قتل وشرَّد أهلنا في غزة على مدار سنين في الحرب الحديثة على إيران، ولا يدري من يتبنى هذا الطرح أنه لو وقع فستمتد دائرة العدوان والحرب على دول أخرى عربية وإسلامية في المنطقة، وستُفتح أبواب ظلم ودماء لا حد لها.
وقد حزن المسلمون حزنًا شديدًا لانتصار الفرس على الروم، وفرح مشركو مكة بهذا الانتصار؛ لأن الفرس كانوا مشركين يعبدون النار فهم أقرب إلى كفار قريش، وكان الروم أهل كتاب فهم أقرب إلى المسلمين، لهذا حزنوا لهزيمتهم، وقد بشرَّهم الله- تعالى- بأن الروم سينتصرون عليهم في سورة سميت باسمهم "الروم".. قال تعالى: ﴿الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ [الروم: 1-5]. فهل الكيان الغاصب أقرب إلى المسلمين من إيران؟!!
إن الوعي بالواقع والتاريخ والمآلات لا ينتج ما يروج في شبكات ومواقع التواصل من مواقف غير متوازنة، وغير عاقلة، وغير محسوبة العواقب والتبعات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.