مع تصاعد التوتر في منطقة الخليج، وازدياد حدة التراشق السياسي والعسكري بين طهران وواشنطن، يطفو إلى السطح سؤال جوهري: هل ما نشهده الآن مجرد فصل جديد من حرب باردة ممتدة؟ أم إننا بصدد انزلاق تدريجي نحو صدام مفتوح؟
الضربة الإيرانية لقاعدة العديد الجوية في قطر شكّلت تحولًا رمزيًّا مفصليًّا في هذا السياق، إذ بدا واضحًا أن خطوط الردع القديمة لم تعد حاضرة بذات القوة، وأن أطراف النزاع باتت مستعدة للمخاطرة بما يتجاوز لغة البيانات.
ومع ذلك، لا تزال المعادلات الكبرى تحكم الإيقاع: ميزان الردع النووي، وتعقيدات الاقتصاد العالمي، والتوازنات الداخلية لدى كل من واشنطن وطهران، بالإضافة إلى شبكة من المصالح والتحالفات الخليجية المعقّدة.
وسط هذا المشهد، يبقى قرار التصعيد الكامل مرتبطًا بخطأ غير مقصود أكثر من كونه رغبة معلنة، لتبقى المنطقة تمضي على حدود اللهب، دون أن تشتعل.. حتى الآن.
قطر، التي وُضعت في قلب العاصفة، فقد تعاملت بحزم وهدوء، مانحة المشهد بعدًا آخر: دولة قادرة على التوازن، من دون أن تتخلى عن ثوابتها
تصعيد محسوب أم اشتباك فعلي؟
الاستهداف الإيراني قاعدةَ العديد، ورغم فشله من الناحية العملياتية بفضل تصدي الدفاعات الجوية، أرسل رسالة تتجاوز الإطار العسكري إلى المعنى الإستراتيجي؛ إذ اختارت طهران أن ترد على واشنطن في قلب الخليج، مستهدفة منشأة عسكرية محورية في قطر، الدولة التي تُعرف تاريخيًّا بدورها كوسيط متزن.
هذا التطور يعكس جرأة في اختيار الزمان والمكان، ومحاولة واضحة لتوسيع نطاق الضغط، دون كسر السقف.. ومن جانبها، التزمت الولايات المتحدة برد محدود، متحاشية الوقوع في منطق التصعيد المفتوح.
بهذا، بدا التصعيد كعملية ضبط إيقاع جديدة في لعبة شد الحبال؛ لا هو إعلان حرب، ولا هو مجرد مناورات إعلامية. وما بين ضرب الرسائل وضبط الإيقاع، يعود المشهد إلى منطق "الرد بعناية"، الذي يحاول الجميع البقاء ضمن حدوده الصعبة.
الخليج: ساحة صراع أم طرف يُحسب له الحساب؟
أعاد هذا التطور رسم صورة الخليج في الخريطة الجيوسياسية، ليس فقط كمنطقة مستهدفة، بل كمركز ثقل يُحسب له في التوازنات. فدول الخليج، التي لطالما وُصفت بأنها ساحات صراع بين النفوذين الإيراني والأميركي، تبدو اليوم أكثر وعيًا بكونها أطرافًا فاعلة قادرة على التأثير وفرض الحسابات.
السعودية والإمارات والبحرين بدت حذرة في تصريحاتها، فيما تواصل الكويت وسلطنة عُمان لعب دور التهدئة التقليدي. أما قطر، التي وُضعت في قلب العاصفة، فقد تعاملت بحزم وهدوء، مانحة المشهد بعدًا آخر: دولة قادرة على التوازن، من دون أن تتخلى عن ثوابتها.
بهذا المعنى، لم تعد العواصم الخليجية مجرد ساحات نفوذ، بل باتت أطرافًا تُحسب في المعادلة الدولية، وتتحرّك بحس إستراتيجي يوازن بين الأمن الوطني والاستقرار الإقليمي.
قطر، عبر هذا الموقف، لم تُجامل على حساب أمنها، ولم تتخلَّ عن دورها في احتواء الأزمات، وهذا بالضبط ما يجعلها فاعلًا غير عادي في لحظة غير عادية!
الحسابات الكبرى: لا أحد يريد الحرب
رغم أن الأجواء مشبعة بالتوتر، فإن معظم المؤشرات تُجمِع على أن الحرب المفتوحة ليست خيارًا مرحّبًا به من أي طرف؛ الولايات المتحدة لا تريد انزلاقًا جديدًا في صراع قد يستنزف قدراتها ويُعيد خلط أوراق المنطقة، وإيران -من جهتها- لا تسعى لمواجهة شاملة قد تفتح جبهات داخلية يصعب ضبطها، ودول الخليج -بأثرها الاقتصادي وموقعها الجغرافي الحرج- تدرك تمامًا أن أي اشتباك شامل سيدفعها إلى تحمل تبعات كارثية.
لذلك، يُلاحظ أن التصعيد يتم عبر أدوات محسوبة: رسائل عسكرية محدودة، تواصل غير مباشر، وتصريحات مُبهمة تُبقي الباب مفتوحًا أمام الوساطات. إنها إدارة توتر، لا قرار تصعيد.. الجميع يلوّح، لكن الجميع يُمسك بخيوط اللعبة، أو يحاول ذلك! وكما هي العادة في مثل هذه اللحظات، تظل اللعبة مستمرة.. حتى يقع الخطأ.
قطر في اختبار السيادة والدور
في خضم التصعيد، بدت قطر في موقع بالغ الحساسية، وقدّمت نموذجًا ناضجًا في إدارة الأزمة؛ فبينما استُهدفت أراضيها بصواريخ سقطت قرب قاعدة العديد، تمسّكت الدوحة بثلاثية واضحة: إدانة قاطعة للانتهاك، تأكيد صارم على السيادة، واستمرار في لعب دور التهدئة.. لم تنجر إلى خطاب التصعيد، ولم تتخلّ عن موقع الوسيط الفاعل، بل تعاملت مع الحادثة بلغة الدولة الواثقة بذاتها.
إن قطر، عبر هذا الموقف، لم تُجامل على حساب أمنها، ولم تتخلَّ عن دورها في احتواء الأزمات، وهذا بالضبط ما يجعلها فاعلًا غير عادي في لحظة غير عادية! في منطقة تطغى فيها الانفعالات، أثبتت الدوحة أنها تملك أدوات القوة الرصينة: قرار سيادي مستقل، وعلاقات تتيح لها أن تُسمع صوتها في اللحظات المعقّدة. ولعلّ هذه القدرة، في حد ذاتها، رسالة لا تقل أهمية عن كل صاروخ أُطلق.
في عالم السياسة، لا يبدأ الحريق دائمًا بقرار، بل كثيرًا ما ينطلق من شرارة غير محسوبة، أو تصعيد ميداني يسبق القرار السياسي
على حافة النار: سيناريو لا يُتمنى ولا يُستبعد
ربما لا نكون في لحظة الانفجار الكبرى، لكننا نقترب من هوامشها؛ فالخيوط التي ظلت متماسكة لسنوات باتت اليوم أكثر هشاشة، والمسافات الفاصلة بين التحذير والتنفيذ تقلّصت بشكل مقلق.
السؤال الآن لم يعد عن نوايا الحرب، بل عن القدرة على ضبط الأعصاب حتى النهاية.. هل يكفي الردع؟ وهل تبقى أدوات الوساطة قادرة على لجم الانفعال؟ وهل يُجيد الفاعلون لعب دورهم دون كسر الطاولة؟
في عالم السياسة، لا يبدأ الحريق دائمًا بقرار، بل كثيرًا ما ينطلق من شرارة غير محسوبة، أو تصعيد ميداني يسبق القرار السياسي. لذا، لا بد من الاعتراف: المنطقة تمشي على حد السكين، والكل يُمسك أنفاسه. فهل ينتصر العقل على ردود الأفعال.. قبل أن تُجبِر الأرض الجميع على الإصغاء لصوتها؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.