شعار قسم مدونات

من يكسب رهان الحياة: العاطفة أم المنطق؟!

برمجة العقل
الكاتب: الشخص المنطقي يبدو في الظاهر أكثر صلابةً وقوة ممن تسيِّره عواطفه فهو يحكم على الأمور بعين العقل (شترستوك)

عادةً ما تحتدم النقاشات حول العاطفة والمنطق، فيستمرّ ذلك الصراع الأزلي بين القلب والعقل، وغالبًا ما تنتهي هذه النقاشات بالحكم على أصحاب العاطفة بالضعف، وعلى أهل المنطق بالبرود. لكن الحفاظ على هذا القدر من العاطفة في عالم مليء بالفوضى هو شكل من أشكال القوة.

أما من يوصفون بالبرود، فربما لا تحكمهم قسوة العقل بقدر ما تحكمهم الانكسارات التي مروا بها، أو مر بها مَن حولهم، فصنعوا لأنفسهم قناعًا من المنطق.

يبقى السؤال: من يكسب الرهان في النهاية؟ من يرى الحياة من خلال قلبه، أم من آمن بأن العقل وحده يقود إلى حياةٍ تخلو من الضعف؟

إن التمرد على طبيعتنا البشرية، وتغييب أحد الطرفين على حساب الآخر، ليس سوى محاولة بائسة للهروب من أعباء نخشى مواجهتها في أعماقنا.

التناقض بين العاطفة والمنطق لا يحتاج سوى توازن بسيط بين ما يفرضه العقل وما يمليه القلب؛ فلا يمكن تغييب أحدهما، إذ لا يستطيع الإنسان الحفاظ على توازنه في الحياة دون إحياء عقله وقلبه معًا

الشخص العاطفي

عند الحديث عن الشخص العاطفي، كثيرًا ما تُختزل الصورة بشخص سهل الانكسار، وكثير التعلق بالأشخاص والأشياء من حوله، ما يجعله أضعف أمام قساوة الحياة؛ إذ يُحكم على من يشارك الآخرين آلامهم، وتسبقه دموعه في كثير من المواقف، بالضعف والعجز.

لكن الحقيقة أن الشخص العاطفي يعيش الحياة بأحاسيس مكثفة، ويتفاعل بقوة مع المواقف التي تواجهه، وهو ما يمنحه قدرةً فريدة على فهم وتجربة الحياة بصدق.

يشير علماء النفس إلى أن العواطف ليست مجرد ردود أفعالٍ عابرة، بل هي جزءٌ أساسي من تواصل الإنسان وبناء العلاقات. وأكدت دراسات عدة أن الأشخاص ذوي الحساسية العاطفية العالية يمتلكون قدرةً أكبر على التعاطف، ما يجعلهم أكثر قدرة على بناء علاقاتٍ إنسانية عميقة وذات معنى.

ومع أن هذا العمق العاطفي قد يجعلهم عرضة للألم النفسي أحيانًا، فإن طاقتهم العاطفية تمثل قوة تساعدهم على التفاعل مع العالم بصدقٍ ودفء، وتجعل منهم أصدقاء وأشخاصًا يُعتمد عليهم في المواقف الصعبة.

علماء النفس يشيرون إلى أن التفكير المنطقي يرتبط بوظائف دماغية عليا، مثل التحليل، والتخطيط، وضبط الانفعالات، وهي أدوات ضرورية لاتخاذ قرارات متزنة، ومواجهة الضغوط بفاعلية

فمن هو الشخص المنطقي؟

هل تخلّى الشخص المنطقي حقًا عن قلبه، ونزع عنه ما تفرضه العواطف من عبء يحمِّله مسؤوليات وروابط قد يراها عبئًا عاطفيًا لا ينسجم مع منطقه؟

إعلان

لا شك أن الشخص المنطقي يبدو في الظاهر أكثر صلابةً وقوة ممن تسيِّره عواطفه، فهو يحكم على الأمور بعين العقل، ويتجنب الانجرار وراء المشاعر في المواقف المعقدة.. يُنظر إليه أحيانًا كمنفصل عن مشاعره أو غير قادر على فهم مشاعر الآخرين، وكأن منطقه حاجز يحول بينه وبين العالم! لكن ماذا لو أزحنا عنه ما أحاط نفسه به، واقتربنا من أعماقه؟

علماء النفس يشيرون إلى أن التفكير المنطقي يرتبط بوظائف دماغية عليا، مثل التحليل، والتخطيط، وضبط الانفعالات، وهي أدوات ضرورية لاتخاذ قرارات متزنة، ومواجهة الضغوط بفاعلية.

كما تُظهر دراسات حديثة في علم الأعصاب أن أصحاب التفكير التحليلي يمتلكون قدرة أكبر على كبح التحيّزات العاطفية عند التعامل مع المواقف الحساسة.

وقد لا يُظهر الشخص المنطقي مشاعره بسهولة، لكنه غالبًا يحملها في العمق، ويختار أن يعبّر عنها بطريقته بهدوء ووعي، وربما باتزان لا يقدر عليه كثيرون.

التوازن بين العاطفة والمنطق 

التناقض بين العاطفة والمنطق لا يحتاج سوى توازن بسيط بين ما يفرضه العقل وما يمليه القلب؛ فلا يمكن تغييب أحدهما، إذ لا يستطيع الإنسان الحفاظ على توازنه في الحياة دون إحياء عقله وقلبه معًا، ومنح كل منهما المجال ليصدر حكمه وفقًا لما يستدعيه الموقف، وما تفرضه اللحظة من حاجة إلى قاضٍ منهما.

ورغم التعارض الظاهر بين الشعور والتفكير، فإن التجربة الإنسانية أثبتت أن الاتزان بينهما هو الشكل الأرقى للنضج النفسي والعقلي. فالعقل وحده قد يقود إلى قراراتٍ مجردة من الحس الإنساني، والعاطفة وحدها قد تدفع إلى مواقف عشوائية غير قابلة للاستمرار.

وحده هذا التوازن هو ما يسمح للإنسان أن يتصرف بوعي؛ فيستجيب بقلبه دون أن يفقد عقله، ويفكر بعقله دون أن يغفل ما يشعر به، وهو توازن لا يُولد مع الإنسان بل يتشكل عبر التجربة والخسارة، ما يجعل من يبلغه شخصًا أكثر وعيًا وتأثيرًا.

سواء أذهلتنا قدرة بعض الأشخاص على التعاطف مع الآخرين، والتعامل مع المواقف بما تمليه عليهم مشاعرهم، أو استفزّنا ذلك، فهم أشخاص يمتلكون قدرةً فريدة على الإحساس بالغير والتواصل الإنساني العميق

في عالمنا اليوم.. من يقود المشهد؟

بالنظر إلى عالمنا اليوم، نرى أن الصراع بين المنطق والعاطفة يتجسد في أغلب المجالات، مثل: السياسة والإعلام ومنصات التواصل.

ففي السياسة، غالبًا ما ينجح الخطاب العاطفي أكثر من العقلاني، لأنه يتوجه إلى مشاعر مثل الخوف أو الأمل أو الغضب، ليكون أكثر سرعةً في الوصول إلى الناس من خطاب الأرقام والمنطق.

كذلك هو الحال في الإعلام، فالروايات المشحونة بالمشاعر تجد رواجًا أكبر ولو على حساب الدقة أو التوازن.

ولو نظرنا إلى مواقع التواصل الاجتماعي فهناك أيضًا يعلو صوت العاطفة، بينما يهمَل في أكثر الأحيان صوت العقل المتزن، لأنه لا يثير الحشود بالقدر ذاته.

كل ذلك يعكس احتياجًا داخليًا للبشر -حتى في عالم رقمي سريع- إلى ما يلمس قلوبهم قبل أن يخاطب عقولهم. لكن ما يغيب عن المشهد أحيانًا هو أن التأثر العاطفي الخالص من دون وعي قد يُستغل أو يُضلل، لتظهر الحاجة مجددًا إلى خطاب جديد يوازن بين اندفاع العاطفة ورصانة العقل، ليكون أكثر صدقًا وأكثر إنسانية.

سواء أذهلتنا قدرة بعض الأشخاص على التعاطف مع الآخرين، والتعامل مع المواقف بما تمليه عليهم مشاعرهم، أو استفزّنا ذلك، فهم أشخاص يمتلكون قدرةً فريدة على الإحساس بالغير والتواصل الإنساني العميق.

إعلان

وفي المقابل، فإن إنكار أنصار المنطق لانصياعهم أحيانًا للمشاعر ليس إلا ضربًا من الخيال، وتهربًا من لحظة ضعف قد تُكلّفهم ثمنًا لا قدرة لهم على دفعه.

فالإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يحتكم بشكلٍ كامل لأحد الجانبين دون الآخر؛ لأن كلًا من العقل والقلب له حكمه حين تحين ساعته.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان