أيها العائد إلى الماضي.. ارجع من حيث أتيت

ارتفاع عدد شهداء المج.ـزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي قرب مركز توزيع المساعدات في مدينة رفح جنوب قطاع غزة إلى 30 شهـ.يداً.
عدد من شهداء المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي قرب مركز توزيع المساعدات في مدينة رفح (مواقع التواصل الاجتماعي)

أهذا أنت يا صاح؟ أم هو طيفك انجلى ويحلق فوق المكان؟

هل عدت حقًا؟ هل شدك الحنين إلى غزة؟ هل مالت نفسك لنسيمها، وموج بحرها؟ هل اشتقت للتمدد فوق رمال شواطئها وتسريح بصرك في الأفق؟ أم تراك افتقدت عبق الزهر والأقحوان، وتقت لأحاديث البحارة وصخب الأطفال وضجيج الأسواق؟ ما بالك عدت إلى الجحيم بعد أن حملت الوطن في حقيبة؟ أطردت من الجنة أم إنك لم تهنأ في النعيم؟

اعذرني يا صاح، بالكاد أتبين ملامحك وقسمات وجهك بين أعمدة الدخان وظلال السراب.. وكوفيتك، هل تخليت عنها؟ اعذرني لأن عيني غائرتان وتعلوهما الغشاوة؛ فما عدت أرى إلا أشباحًا تتراقص هنا وهناك، وظلالًا تتلاطم كالموج الهادر، ومواكب تشييع صامتة.

هل تعرفت على الديار.. على جباليا، وتل الزعتر، وحي السلطان؟ كيف تلمست دربك بين الظلمة والسواد؟ كيف اخترقت الموت والصمت؟ أم تراك تهت أنت أيضًا في بطن الصحراء، وتعثرت بين الركام؟

اعذرني، إذ لن أقوى على النهوض لاستقبالك، إنه الوهن نال مني، وأصابني الخور.. أصخ السمع جيدًا! هل وصلك صدى صوتي المبحوح؟ هل سمعت قرقرة أمعائي الفارغة، وهدر الكلاب الضالة، ومواء القطط الجائعة من حولي؟ أرأيت حمم الموت القادمة من السماء بسخاء؟

إن أخذتني سِنة من النوم أيقظني، ودعني أحدق مليًا في بياض الجدران وزرقة السماء، علها تخلصني من كوابيسي المفزعة، وتمحو من مخيلتي المشوشة وجوه الأطفال البريئة، ونواح الأرامل، ومشاهد الأشلاء المتطايرة

هل أتاك حديث الفاجعة؟ هل تناهت إلى مسامعك مذبحة أهلنا في غزة هاشم؟ أبلغك ما آل إليه حالنا؟  فادحة هي تراجيديا غزة، ندب عميق في جسدنا وفي ذاكرتنا.. وصمة عار في جبيننا! ما كان خيال إيسخيلوس ليشطح إلى هذا الحد، ولا أن يجمح فيتمثل في مسرحيات محرقة مرعبة كهذه، ولا الفراعنة وبني كنعان، ولا حتى الإغريق والرومان.. وكل عابر سبيل ارتوى من ماء هذه الأرض وشبع من زرعها.

اعذرني يا صاح إن أثقلت عليك بالسؤال تلو السؤال، إذ استغربت عودتك ونحن على هذا الحال! لقد صرنا أمواتًا بين الأحياء، وأحياء بين الأموات، وبيننا أجساد لا تأكلها الأرض، وأرواح لا تقيدها أغلال، وشلالات دماء لا تتوقف! هل صادفت في مسيرك قوافل الأيتام والثكالى؟ هل مررت بطوابير الحفاة والجياع وقد اجتمعوا على موائد اللئام؟

إعلان

مذ غادرتنا ذات صباح وأيامنا باتت تتشابه، تتواتر، وأخبارنا ذاعت في العالم ولاكتها الألسن.. صرنا نذبح فرادى وجماعات في مصائد الموت، نساق إليها في صمت كما تساق الشياه وقطعان الأنعام، تتربص بنا المنون في كل ساعة وحين. نحن يا صاح قوم لا نحيا إلا لنموت! وقاتلُنا يطل من شرفة بيتنا، يشحذ سكينه ويبتسم!!

أيها العائد إلى الماضي، رجاء ارجع من حيث أتيت.. أستحلفك بالله أن تعود إلى منفاك، إلى غربتك، إلى مستقبلك. يا صاح، أما زلت بيننا؟ أم هو طيفك يترنح؟ ما بالك تسير الهوينى؟ أما عافت نفسك كل هذا الدمار وهذا الكم من الغم والأحزان؟

لقد بحت أصواتنا بكاءً وعويلًا، جف ريقنا طلبًا واستجداءً، وما من مجيب ولا مغيث.

اعذرني إذ فاتني في حمأة الأسى والوجع أن أخبرك أننا صرنا -في غفلة من أمرنا- عبيدًا في مملكتنا، غرباء في أرضنا وأذلة بلا عزة. اعذرني يا صاح!!

فإن أخذتني سِنة من النوم أيقظني، ودعني أحدق مليًا في بياض الجدران وزرقة السماء، علها تخلصني من كوابيسي المفزعة، وتمحو من مخيلتي المشوشة وجوه الأطفال البريئة، ونواح الأرامل، ومشاهد الأشلاء المتطايرة.

أيها العائد إلى الماضي، رجاء عد من حيث أتيت.. أستحلفك بالله أن تعود إلى منفاك، إلى غربتك، إلى مستقبلك. يا صاح، أما زلت بيننا؟ أم هو طيفك يترنح؟ ما بالك تسير الهوينى؟ أما عافت نفسك كل هذا الدمار وهذا الكم من الغم والأحزان؟

احمل ما شئت من حبات الرمل، وما وسعت يداك من أغصان الزيتون والزعتر، واجمع شتات أحلامك وآمالك وارحل. ودع من شئت وارحل، فلا مستقبل في غزة للأحياء!!

أما أنا، أنا من أدمن الحزن، فسأبقى هنا لمؤانسة الشهداء في قبورهم، وأسقي زهور السوسن والقرنفل الحزينة بدمي وعبراتي.. فذاك قدري، لا خياري!!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان