لم يفق الطفل مذعورًا لأنه وُلد في حيز جغرافي مضطرب، ولم يطلق صيحة الحياة إيذانًا بشروق يفضي إلى غروب كوني.. بل أفاق بـ "صليات" من الأسئلة، ورشقات من الهموم، وبوارج من التشتت، وتنهدات من أسلحة دمار شامل، فضاقت عليه أنفاسه، واختلجت عبراته، واضطربت آفاقه، واختلت قيمه ومبادئه فطفق يبحث عن إنسانيته!
لم تعد هناك معادلة متكافئة مع البحث المضني، الذي دفع طفلًا بريئًا -كبراءة أنظمتنا مما يدور حولها- ليفتش عن إنسانية الإنسان ذاته، وسط جيل كُبّل بقيود التبعية، وأُسقط في وحل الحضارة المتقدمة الزائفة، فشد وثاق المحاكاة حتى وقع في فخ السبي دون مقاومة.
الأدهى والأمر في حرب لا تُعرف سماؤها ولا أرضها، ما أكده نتنياهو بأن هدفه ضرب المفاعلات الإيرانية، فهل تداعياتها ستكون محصورة في حدود طهران ونطنز وأصفهان؟ أم إن أبواب الجحيم الجيوسياسية ستطول الإقليم بأسره؟
في هذا الركن الأكثر اضطرابًا من هذا الكوكب المتنافر والمتناحر؛ كبُر الطفل وكبرت معه علامات الاستفهام بحجم "شروق" الشمس المنبلجة على مآذن ومساجد تبنى لتهدم، وغروب يئن دون انقطاع على أجنة لم ترَ النور توأد لتفنى.
هنا يكون "الشرق الأوسط" -موضعًا وموقعًا- هو المتهم والمجني عليه لأنه لم يعرف السكون؛ فكان مهبطًا دائمًا للصراعات بوجوه متبدلة، ليصبح الموطن والمحنة والسؤال دون الجواب.
بحجم علامات التعجب تثور الأسئلة في شرقنا المتوسط: لماذا هذا الشرق بؤرة مشتعلة مستمرة؟ ولماذا لا يستحق أن يعيش هدنة ولو حتى حين؟
في هذا الامتداد الجغرافي الذي لا يهدأ، ومنذ بزوغ التاريخ، كان الشرق الأوسط -وما يزال- مهد الحضارات وموطن الرسالات، لكنه في ذات اللحظة مرقد للأزمات، فالطرق إليه متشابكة بحجم تعقد الثروات التي تسير في غير مسارها، وتصب في جيوب أعدائها.
لقد وهبت الجغرافيا هذا الحيز الوجودي لعنة سال فيها التاريخ دمًا وذهبًا، وكان وما برح محط الأطماع، ليحيا إنسانه كما يُراد له وليس كما يشاء ويرغب، فعاش مغتربًا يفتش عن هدنة وهوية لأنه لا يمكن أن يكون في مستوى بشرية المجتمعات الغربية، فنام في شبر من كرامة وصحا على قرار ودمار وغارة.
التاريخ هو الشاهد الذي لم يخذلنا كما خذلناه، فمنذ غزو الإسكندر وإلى عنجهية هولاكو في بغداد، مرورًا بانهيار "الرجل المريض" (الدولة العثمانية) مع اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، تناوبت على شرقنا "المغترب" قوى خارجية شتتت شمله؛ باعتباره مطمعًا لا وطنًا ومغنمًا لا شريكًا
الشرق الأوسط.. صراع لا ينتهي!
الإنسان في هذا الجزء المترامي هو جزء من التاريخ، ومكوّن وقع عليه فعل الفاعل دون إلٍّ ولا ذمة، فكان الباحث عن مقامه بين الشعوب الأخرى.. الجسد الذي التفَّت عليه أفاعي الغدر بازدواجية المواقف وانتهازية المصالح، فمنذ أور وسومر وبابل، وإلى الشام ومصر والحجاز، كان هذا الشرق الذي اكتسى بلون الغروب والاندثار مسرحًا لكل حالم بالسيطرة والهيمنة، لا من قلة، بل من كثرة لكنها كغثاء السيل.
أيها السادة: شرقنا الأوسط تاريخ حافل بالخيانة ونكث العهود والتآمر والخذلان، وساحة لتصفية الحسابات، وميدان لاختبار التجارب، ولوحة مفاتيح يتحكم بها "شرطي العالم" وفق مقاييسه، فهو يُطبق على خاصرتها ويتحكم في خزائن طاقاتها ويحكم القبضة على منابعها وإلهامها الروحي والفكري.
التاريخ هو الشاهد الذي لم يخذلنا كما خذلناه، فمنذ غزو الإسكندر وإلى عنجهية هولاكو في بغداد، مرورًا بانهيار "الرجل المريض" (الدولة العثمانية) مع اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، تناوبت على شرقنا "المغترب" قوى خارجية شتتت شمله؛ باعتباره مطمعًا لا وطنًا ومغنمًا لا شريكًا.
فذانك الاستعماران البريطاني والفرنسي قسّماه كما تقسم المغانم لتُلقى في عمق الحرب الباردة كساحة صراع أميركي- سوفياتي، وتتوالى بعدها النكبة والنكسة واجتياح لبنان إلى حروب الخليج، حتى ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، الذي جاء في ثوب القضاء على الإرهاب، بينما حقيقته حروب موجهة ومنظمة تستبيح العقيدة علنًا، ثم احتلال العراق، ثم الأزمة السورية، ثم اليمن، إلى أن نصل إلى أحداث غزة المتجددة، ووبال الحرب بين إيران والكيان الإسرائيلي بالإنابة.
أيها الباحثون عن هدوء الشرق! هلا سألتم الطين في العراق عمن نسيه، والسيف في الشام عن صليله وغمده، والدمع في فلسطين عن عينه ومحجره، والريح في اليمن عن عصفها وقصفها، والسواد في غزة عن وشاحه ووشائجه. وهلا سألتم عن رياح المفاعلات النووية التي زرعت في خواصركم وبين مرابعكم: أين وقعها ونقعها؟ وهلا سألتم عن إنسان أنسيتموه طينه وفطرته.
تلك الأزمة المفتعلة، التي يراد بها تشكيل المنطقة تحت عنوان عريض يسمى "الأمن" المشروط بالخوف والانقياد، لا يمكن أن تكون موجهة ضد النووي الإيراني فقط، ومهما حسبت الأنظمة بأن النار لن تصل بيتها فهي مخطئة؛ فالطوفان لا يستأذن
صكوك الحل والعقد
لقد ذاب شرقنا وتلطخ شرفنا؛ فوقع إنساننا بين مطرقة الخارج وسندان الداخل، باحثًا لاهثًا خلف لقمة تتناثر من فم جشع لا يرى أبعد من عتبة أنفه، فكان همّ الداخل الضرب بيد من حديد لكسب الولاء والطاعة، وهمّ الخارج ممارسة "التفحيط" السياسي، وتنفيذ التجارب على شعوب فقدت ذواتها لتنتصر لمبادئ أنظمتها وغطرسة حكامها.
فلم تكن لأهل الأرض يد طولى، بل كانت لأصحاب القواعد والأساطيل التي تتحرك من غرف محصنة في واشنطن ولندن وباريس، وبالإنابة تل أبيب، فتملّكت صكوك الحل والعقد، وسيطرت على الأنظمة وأفرغتها من مضمونها لتصبح شكلًا بلا ظل، فيصبح شرقنا ويمسي معملًا لاختبار نظريات الردع، ومصنعًا للتوازنات الدولية على أنقاض طفل بلا مستشفى ولا مدرسة ولا هوى ولا هوية.
هل الكرسي حقًّا أغلى من الأرض؟ وهل إنساننا ولد وعلى عنقه قيده ليستعبد؟ وهل ابن الجغرافيا عاش مشبوهًا فتشوهت آماله، والأقرب بأنه مذنب حتى يثبت العكس، بل إنه دفن دون أن يعرف لماذا عاش في الأصل، فهو لا يتماثل مع الإنسان الغربي أبدًا؟!
بين إيران والكيان الإسرائيلي
تلك الأزمة المفتعلة، التي يراد بها تشكيل المنطقة تحت عنوان عريض يسمى "الأمن" المشروط بالخوف والانقياد، لا يمكن أن تكون موجهة ضد النووي الإيراني فقط، ومهما حسبت الأنظمة بأن النار لن تصل بيتها فهي مخطئة؛ فالطوفان لا يستأذن. وقد قيل: " إياكِ أعني، فافهمي يا جارة"، والنظام الإيراني لا يسقط لوحده بل سيجر معه من حوله.
إن الأنظمة السائدة والبائدة لم ولن تملك قرارها؛ لذلك ستقع فريسة التغيير المفضي إلى فوضى عارمة، تجر وبال الخسارة على الإنسان، لأنها منشغلة بنفسها دون البحث عن مشروع وحدوي أو استقلالي، وبعضها متواطئ، وكثيرها مشلول مبعثر، فمتى تستشعر الخطر المحدق بها؟.. هناك سؤال بريء كبراءة طفل حزم أمتعته ليبتعد عن حر صيف الخليج لكنه "يعود بخفي حنين": هل يحتاج إنساننا إلى تجهيز الملاجئ خوفًا من نيران صديقة؟
أما الأدهى والأمر في حرب لا تُعرف سماؤها ولا أرضها، فهو ما أكده نتنياهو -الوكيل الحصري لترامب- بأن هدفه ضرب المفاعلات الإيرانية، فهل تداعياتها ستكون محصورة في حدود طهران ونطنز وأصفهان؟ أم إن أبواب الجحيم الجيوسياسية ستطول الإقليم بأسره؟ ليكون السؤال الأكثر إلحاحًا: كيف ستواجه الأنظمة وشعوبها تلك المجازفة؟
بيئيًّا وصحيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا.. لا يمكن أن نسأل: لماذا حدث؟ بل ماذا أعددنا؟ فلماذا هذا الصمت المقيت؟
وبديهيًا؛ إن الرياح وما تحمله لا تعترف باتفاقيات حسن الجوار؛ فثمة أسئلة تنشطر مع خطورة المفاعلات: هل مستشفياتنا لديها القدرة على توفير مضادات التسمم الإشعاعي؟ وهل يفتح مضيق هرمز ذراعيه لمرور الإمدادات الحيوية؟ وهل يمكن المراهنة على وعي الشعوب والإنسان، وحمايته من براثن الوقوع بين هواجس الحقيقة والتضليل الموجه؟ فالكارثة لا تستأذن في وقوعها، بل تجرف كل شيء أمامها.
فيا شرق طال ليل شروقه، ويا إنسان طفح كيل صمته وفاض كأس قهره، أما آن الأوان أن تُوقف رقصات الغرب على طُهر ترابك؟ أما آن الأوان أن تقف وقفة واحدة دون طائفية أو مذهبية كما قال فهمي هويدي: "اليوم انصهرت المذاهب، ولم يبق لنا سوى مذهبين، إما أن تكون مقاومًا، أو تكون صهيونيًا.. وكفى"؟!
ذلك الإنسان شاخ قبل كبر سنه.. "لقد هرمنا"! وهذا "شرقنا" يحاول مسح غبار الغفلة؛ فهل يمكن للحرية أن تصلي في محرابه؟ وهل يجوز للعدالة أن تتيمم من دموعه؟ وهل يمكن أن يمنح إنسانه اسمًا قبل أن يكون رقمًا؟ ومتى يصبح شرقنا شرقًا، وليس مجرد اتجاه في بوصلة الغرب؟
"وحين لج في بحثه.. قالوا له: غدًا ستجده، بعد غدٍ ستجده، لا بد أن تجده!".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.