- حين تتحدّث الأرقام..
ترسم استطلاعات الرأي صورة لزلزال ديمغرافي؛ فاستطلاع حديث لـ "ذي إيكونوميست/ يوغوف" (يونيو/ حزيران 2024) يُظهر أن 54% من الأميركيين فوق سن الـ 65 يتعاطفون مع إسرائيل، بينما تنقلب الصورة لدى الشباب تحت سن الثلاثين، حيث يتعاطف 29% منهم مع الفلسطينيين مقابل 13% فقط لإسرائيل. هذه الهوة ليست مجرد تباين في الرأي، بل هي علامة على صدع ثقافي عميق يفصل بين رؤيتين للعالم، سنشرحه في هذه المقالة.
الطوفان الثقافي الجديد غذته روافد عديدة، أبرزها أحداث غزة (2023-2024) التي حولت "تيك توك" إلى مصدر أخبار رئيسي لجيل كامل، حيث نقلت صورًا خامًا للمعاناة، تجاوزت الإعلام التقليدي
"ثقافة الولاء": أركان الإجماع التاريخي
لم تكن "ثقافة الولاء" مؤامرة، بل قناعة لدى جيل كامل، قامت على ثلاثة أركان: أخلاقي (ذكرى الهولوكوست)، وإستراتيجي (الحرب الباردة)، وقيمي (تحالف "القيم اليهودية-المسيحية").
وكان حراس هذه الثقافة هم: المؤسسة السياسية بشقيها، ووسائل الإعلام الرئيسية، والمنظمات المجتمعية الراسخة.
"طوفان العدالة": محركات التغير
الطوفان الثقافي الجديد غذته روافد عديدة، أبرزها أحداث غزة (2023-2024) التي حولت "تيك توك" إلى مصدر أخبار رئيسي لجيل كامل، حيث نقلت صورًا خامًا للمعاناة، تجاوزت الإعلام التقليدي.
تزامن هذا مع عولمة قضايا العدالة الاجتماعية، حيث أُدرجت القضية الفلسطينية ضمن إطار عالمي لمكافحة الظلم، مستخدمة مصطلحات جديدة مستقاة من الخطاب الأكاديمي النقدي السائد في الجامعات.
تشريح الفجوة عبر نظرية الأجيال
تساعدنا نظريات الأجيال، من كارل مانهايم إلى ستراوس وهاو، على فهم عمق هذا الانقسام؛ فكل جيل يرى العالم من خلال تجاربه التأسيسية. جيل "طفرة المواليد" (Boomers)، الذي تشكل وعيه في ظل اليقين الأخلاقي لفترة ما بعد الحرب، يميل إلى رؤية القضية كمسألة ولاء وأمن.
في المقابل، فإن الجيل "زد" (Gen Z)، الذي نشأ وسط أزمات متلاحقة ونشاطية رقمية، يراها من خلال عدسة العدالة الإنسانية والحقوق المتساوية.
إن التحدي الأكبر ليس في انتصار ثقافة على الأخرى، بل في القدرة على خلق لغة سياسية جديدة تعترف بالهواجس الأمنية المشروعة لثقافة الولاء، وتحترم في الوقت نفسه المطالب الأخلاقية لثقافة العدالة
بين الأبيض والأسود: المنطقة الرمادية والنقد الذاتي
الاختزال في ثنائية "الولاء" مقابل "العدالة" يغفل وجود منطقة رمادية واسعة، تضم من يؤيدون أمن إسرائيل لكنهم ينتقدون سياسات حكومتها بشدة ويدعمون حل الدولتين.
وفي نفس الوقت، يجب الاعتراف بأن خطاب "ثقافة العدالة"، على نبله، قد يقع أحيانًا في فخ التبسيط المفرط، وقد يستغل للتغطية على مواقف معادية للسامية.
استشراف المستقبل: سيناريوهات وتداعيات
أمام هذا الصدع، تبرز ثلاثة سيناريوهات رئيسية: التخندق وازدياد الاستقطاب، ما يؤدي إلى شلل سياسي؛ أو التركيب الجديد حيث تفرض الأجيال الشابة معادلة جديدة تربط الأمن بالعدالة؛ أو المصالحة بفعل أزمة كبرى أو قيادة ملهمة تنجح في تجاوز الثنائيات.
وفي كل الحالات، فإن التداعيات على السياسة الخارجية الأميركية، خصوصًا في الأمم المتحدة وداخل الحزب الديمقراطي، ستكون هائلة.
نحو توازن جديد
في نهاية المطاف، الخلاصة الواضحة هي أن هذا الصدع ليس مؤقتًا، بل هو بنيوي ومتجذر. وعليه، فإن التحدي الأكبر ليس في انتصار ثقافة على الأخرى، بل في القدرة على خلق لغة سياسية جديدة تعترف بالهواجس الأمنية المشروعة لثقافة الولاء، وتحترم في الوقت نفسه المطالب الأخلاقية لثقافة العدالة.. إن إيجاد هذا "التوازن" الصعب هو شرط استقرار المجتمعات الغربية في العقود القادمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.