بين الفوضى وإعادة التشكيل: خرائط تُطبخ في غرف السياسة المغلقة

خارطة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
بات الشرق الأوسط الجديد يُطرح كمشروع لإعادة ترتيب المنطقة، انطلاقًا من معايير القوة لا منطلَقات الشعوب (الجزيرة)

لعقود طويلة، رُسم الشرق الأوسط بالأقلام الدبلوماسية قبل أن يُصاغ بالدماء على الأرض. لم تكن التحولات السياسية الكبرى نتيجة تفاعلات طبيعية بين القوى الداخلية، بل غالبًا ما كانت مقررة سلفًا على طاولات لم يكن لشعوب المنطقة أي مقعد فيها.

واليوم، بعد كل ما شهدته المنطقة، يطفو على السطح سؤال أكثر إلحاحًا: هل نشهد شرقًا أوسط جديدًا؟ أم إننا نعيد تدوير الأزمات وفق قواعد جديدة؟

تحولات متسارعة.. أنحن أمام مشروع جديد أم فوضى مُنظمة؟

ما يُكتب هنا ليس تحليلًا تقليديًّا، بل قراءة لشهادة حيّة عن لحظة مفصلية تمرّ بها المنطقة. في قلب تحولات متسارعة، وسط انفجارات الجغرافيا وتداخل الأجندات، يعود مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" إلى واجهة النقاش، لا كمصطلح أكاديمي، بل كواقع آخذ في التشكل.

بين تكرار الانهيارات، وتبدل خرائط التحالفات، وتعقّد النزاعات، يُطرح السؤال من جديد: هل ما يحدث إعادة هيكلة نحو مستقبل أكثر استقرارًا؟ أم هو مجرد تكرار للفوضى بحُلل جديدة وأدوات أكثر دقة؟

ما يحدث الآن ليس مصادفة.. بل هندسة سياسية دقيقة

لم يعد الحديث عن "شرق أوسط جديد" مجرد مصطلح يُناقش في الدوائر الأكاديمية، بل تحول إلى مشروع متكامل يعيد صياغة المنطقة وفق حسابات سياسية دقيقة. السؤال الذي يُطرح هنا: هل هذه التغيرات تهدف حقًا إلى بناء واقع أكثر استقرارًا؟ أم إنها وسيلة لإعادة توزيع النفوذ بطريقة تخدم مصالح الأطراف المتحكمة؟

استُخدمت وسائل الإعلام لإعادة صياغة الرأي العام، وتعزيز روايات تبرر التغيير القسري، حيث تم تصوير بعض الأزمات كجزء من عملية ضرورية لإعادة البناء، في حين أن تداعياتها كانت أشد قسوة مما كان يُروج له

من سايكس بيكو إلى الشرق الأوسط الجديد.. صيغ تُفرض لا تُناقش

عبر التاريخ، لم يكن الشرق الأوسط مجرد ساحة للصراع، بل كان موطنًا لحضارات عظيمة، حيث تفاعلت الشعوب وتداخلت الثقافات وأنتجت إرثًا غنيًّا يمتد لآلاف السنين.

ومع ذلك، ظل عرضة لمحاولات إعادة رسم خرائطه وفقًا لمصالح القوى الكبرى؛ فمع نهاية الحرب العالمية الأولى، أعيد تشكيل حدوده بناءً على اتفاقية سايكس بيكو، التي لم تضع في الاعتبار النسيج الاجتماعي المتشابك للمنطقة.

وفي العقود الأخيرة، عاد الحديث عن إعادة التشكيل بشكل أكثر وضوحًا، لا سيما بعد التحولات الأمنية العالمية، وبروز إستراتيجيات جديدة تنطلق من قلب العواصم المؤثرة، حيث بات الشرق الأوسط الجديد يُطرح كمشروع لإعادة ترتيب المنطقة، انطلاقًا من معايير القوة لا منطلَقات الشعوب.

إعلان

كوندوليزا رايس.. هل يعيد التاريخ نفسه؟

لكن، ربما كانت اللحظة الأكثر رمزية في ذلك الوقت هي تصريح كوندوليزا رايس خلال الحرب على لبنان عام 2006، حين وصفت الأحداث بأنها "مخاض ضروري لولادة شرق أوسط جديد".

هذا التصريح عبّر عن رؤية سياسية ترى في الأزمات الكبرى فرصًا لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي، في مقاربة تستند إلى أن التحولات الجذرية غالبًا ما تأتي عقب مراحل اضطراب وصراع.

تُدار معظم التفاعلات الإقليمية اليوم من غرف أبعد من حدود المنطقة، حيث تُتخذ قرارات كبرى بمعزل عن السياقات المحلية وتوازناتها الدقيقة

أدوات التغيير.. القوة أم الإعلام؟

لم تكن الأدوات المستخدمة لتحقيق هذا التغيير سرية أو خفية؛ التدخلات العسكرية كانت مباشرة في بعض الأحيان، كما حدث في العراق، وأحيانًا عبر حروب بالوكالة كما هو الحال في سوريا واليمن.

إضافة إلى ذلك، استُخدمت وسائل الإعلام لإعادة صياغة الرأي العام، وتعزيز روايات تبرر التغيير القسري، حيث تم تصوير بعض الأزمات كجزء من عملية ضرورية لإعادة البناء، في حين أن تداعياتها كانت أشد قسوة مما كان يُروج له.

هل تحقق الاستقرار الموعود؟

على الأرض، كانت النتائج عكس المتوقع.. فبدلًا من أن يؤدي هذا "المخاض" إلى شرق أوسط أكثر تماسكًا، زادت النزاعات المسلحة، وأصبحت الحروب أكثر تعقيدًا، وارتفع عدد اللاجئين، وتعمقت الأزمات الاقتصادية، حيث تحولت بعض الدول إلى ساحات مفتوحة للصراع بين القوى المتنافسة، دون أن يكون لشعوبها أي دور حقيقي في تحديد مسارها.

تُدار معظم التفاعلات الإقليمية اليوم من غرف أبعد من حدود المنطقة، حيث تُتخذ قرارات كبرى بمعزل عن السياقات المحلية وتوازناتها الدقيقة.

عبر الحوار الوطني، والعدالة، والمصالحة الحقيقية، يمكن أن يولد شرق أوسط لا يُفرض بقوة خارجية، بل يُبنى بإرادة أبنائه، خطوة بخطوة، نحو مستقبل يُشبههم

بين التدخلات الخارجية والمبادرات المحلية.. أي مستقبل ينتظر المنطقة؟

في خضم هذه التحولات، كان المواطن العربي الحلقة الأضعف؛ شاهدًا على تغيرات لم يكن له يد فيها، يعاني من آثارها دون أن يمتلك أدوات التعامل معها.. لم يعد التهديد مقتصرًا على الحدود السياسية، بل امتد إلى تفاصيل حياته اليومية، حيث أصبح فقدان الأمن وعدم اليقين بالمستقبل جزءًا من الواقع المعيش.

في ظل هذه الظروف، لم تعد فكرة "الشرق الأوسط الجديد" تحمل الأمل الذي كان يُروج له، بل تحولت إلى رمز لمشاريع لم تأخذ في الاعتبار المصالح الحقيقية لسكان المنطقة.

استعادة المبادرة.. هل يمكن إعادة رسم المسار من الداخل؟

رغم ذلك، لا تزال هناك محاولات جادة لإعادة رسم المسار من الداخل، بعيدًا عن التصورات التي تُفرض من الخارج.

هناك مجتمعات تسعى لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن، وهناك مبادرات تحاول إيجاد حلول محلية للأزمات المتفاقمة، لكن هذه الجهود تواجه تحديات كبيرة في ظل استمرار التدخلات الخارجية، التي تسعى لإعادة تشكيل المنطقة وفق معادلات تخدم مصالحها الخاصة.

شرق أوسط جديد.. ولكن من يصنعه؟

ربما لا يكون الشرق الأوسط الجديد قد وُلد بعد، لكنه يتغير رغم الفوضى، ويتشكل رغم العقبات، ويتلمس طريقه نحو مستقبل مختلف.

التغيير الحقيقي لن يأتي عبر القوة أو عبر إعادة رسم الخرائط في غرف السياسة المغلقة، بل عبر استعادة الإرادة الشعبية، وبناء مشاريع وطنية تستند إلى مصالح الشعوب قبل أي حسابات أخرى. فكما أن التدخلات المسلحة لم تصنع دولًا قوية في السابق، فإن الفوضى لن تصنع شرقًا جديدًا أكثر استقرارًا.

فقط عبر الحوار الوطني، والعدالة، والمصالحة الحقيقية، يمكن أن يولد شرق أوسط لا يُفرض بقوة خارجية، بل يُبنى بإرادة أبنائه، خطوة بخطوة، نحو مستقبل يُشبههم.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان