شعار قسم مدونات

الفرد والمجتمع: قراءة في فكر دوركايم من منظور إسلامي

صورة4: ربطت الأبحاث درجات الحرارة المرتفعة بمعدلات انتحار أكبر (شترستوك).
الكاتب: في كتابه الشهير "الانتحار"، ناقش دوركايم انخفاض معدلات الانتحار في مجتمعات الأقليات، وعزا ذلك إلى قوة الروابط الاجتماعية بين أفرادها (شترستوك)

يركز دوركايم في كتبه على أهمية "التماسك الاجتماعي"، فهو يعتقد بأنه صمام الأمان للمجتمع، وأن كل الظواهر الاجتماعية غير المرغوبة، كالجريمة والانتحار، تتزايد معدلاتها مع انحسار الروابط الاجتماعية.

ففي كتابه الشهير "الانتحار"، ناقش دوركايم انخفاض معدلات الانتحار في مجتمعات الأقليات، وعزا ذلك إلى قوة الروابط الاجتماعية بين أفرادها.

وفي كتابه "التربية الأخلاقية" يتحدث دوركايم عن بناء مجتمع أخلاقي، فنراه يكر على الذين يقولون: "إن التحرر من القيود الاجتماعية والدينية والعادات والتقاليد هو السبيل الأوحد ليحقق الإنسان وجوده الأمثل ولتبلغ إمكاناته ذروتها"؛ فيدافع ويحاجج لصالح فكرة مضادة مفادها: "إن الإنسان كائن محدود، ويعيش في عالم محدود، وبالتالي فلا بد أن تحده حدود عالمه، وأهمها حدود مجتمعه وموروثه".

ما نفتقده كمسلمين هو دور الفرد في تهذيب نفسه، وهنا أقصد قدرة الفرد -بدرجة تختلف من فرد لآخر- على تجاوز المجتمع والرجوع إلى ضميره الفردي الحر

وقد وضح أيضًا أن دعواهم لا تؤدي إلى تحقيق الوجود الإنساني الأمثل للفرد، بل إلى تشتت طاقاته وإمكاناته؛ فالإمكانات القصوى لإنسانية الفرد تتحقق وهو محدود بحدود عالمه.

ولكن ماذا لو كانت حدود المجتمع وقواعد الانضباط الاجتماعي والأخلاقي فيه مستمدة من الدين؟! في هذه الحال، يرى دوركايم أن التعاليم الدينية تؤدي دورًا محوريًا في التربية الأخلاقية، وبما أنه باحث في الأخلاق -أيًا كان مصدرها- فلن تجد في وصفه لتلك المجتمعات عداء للدين، فهو يعتبر الدين منتجًا اجتماعيًا لا غنى عنه في البناء الأخلاقي لتلك المجتمعات.

إعلان

غير أنه يعتقد أن هناك مجتمعات قد تجاوزت الدين، وأخرى تمضي في سيرورة اجتماعية ستتجاوز الدين حتمًا، وهنا لن تصلح التعاليم الدينية في تشييد البناء الأخلاقي لتلك المجتمعات، فيكون لا بد من بديل تربوي يحل محل الدين.

والبديل الذي يقدمه دوركايم في كتابه "التربية الأخلاقية" يحاول البناء على أسس علمية مادية؛ فهو يعتقد بوجود قيم أخلاقية حديثة قد تجاوزت الدين، يعتنقها أبناء تلك المجتمعات، وهي قيم تعبر عن نفسها وتحاجج لأخلاقيتها بلغة علمية حديثة، ذلك أنها قيم لم تكن موجودة في التعاليم الدينية أصلًا، بل إن بعضها قد حاربته التعاليم الدينية.

لكن، هل يعتقد دوركايم بأنها كافية، وأنه بالإمكان الاستغناء عن القيم التي تحملها التعاليم الدينية؟! لا، وهو أيضًا يسخِّف أي باحث أخلاقي يعتقد بذلك ويصفه بالسذاجة؛ ذلك أنه يرى أن التعاليم الدينية الأخلاقية لها جوهر تم التعبير عنه بلغة دينية، وهنا يقترح دوركايم دراسة ذلك الجوهر، والكشف عنه، وإعادة التعبير عنه بلغة علمية حديثة تتجاوز الدين.

قرأت كلام الوعاظ والفقهاء والدعاة والمتصوفة في موضوع الأخلاق والتزكية، فوجدتهم جميعًا يتحدثون عن ضبط النفس وكبح جماحها، وعن التماسك الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وتلك نقطة الاتفاق بينهم وبين دوركايم

أجدني -كمسلم- أحب تركيز دوركايم على أهمية "التماسك الاجتماعي" وضرورة الحفاظ عليه وتعزيزه، وذلك -بلا شك- قاسم مشترك بينه وبين كل باحث يؤسس للتربية الأخلاقية على أسس دينية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد المجتمع المسلم يهتم كثيرًا بالتماسك الاجتماعي، فهناك تعاليم دينية تركز على التزاور والصلة (صلة الأرحام، عيادة المريض، تفقد أحوال الجيران.. إلخ)، وأخرى تحث على التكافل الاجتماعي (نظام النفقات، الصدقات، الزكاة.. إلخ)، وأخرى تحض الناس على التجمع ليتعارفوا ويتكاتفوا (الصلوات الخمس، صلاة الجمعة، صلاة العيد.. إلخ).

ولكن ماذا عن طبيعة تلك الضوابط التي حضت عليها التعاليم الدينية، والتي يجب على الفرد أن ينضبط بها؟! وهل يؤدي الانضباط بها حقًا إلى صلاح المجتمع وانخفاض معدلات الجريمة والانتحار فيه؟! وهل يتناسب ما يريده دوركايم مع تلك الضوابط؟!

إعلان

لنأخذ التعاليم الإسلامية -كمثال مرة أخرى- للإجابة عن هذا السؤال.. ثمة تعاليم تحث الإنسان على ضبط أطماعه وغرائزه وأحقاده وضغائنه وطبائعه الكيدية.. إلخ، وهي جميعًا -بتصوري- ما يرمي دوركايم إلى البحث عن الجوهر الأخلاقي المضمن فيها، بغية إعادة التعبير عنه بلغة علمية حديثة؛ ذلك أن تلك التعاليم الدينية توجه نحو ضبط طباع، قد تدفع صاحبها إلى الجريمة لو تُرك حبلها على غاربه.

حسنًا، فما الفرق إذًا بين رؤية دوركايم ورؤية الأخلاقيين الذين يستندون إلى التعاليم الدينية؟!

في الحقيقة، إنني قرأت كلام الوعاظ والفقهاء والدعاة والمتصوفة في موضوع الأخلاق والتزكية، فوجدتهم جميعًا يتحدثون عن ضبط النفس وكبح جماحها، وعن التماسك الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وتلك نقطة الاتفاق بينهم وبين دوركايم. فما الذي أفتقده ويفتقده أي مسلم حين يقرأ لدوركايم؟!

ما نفتقده كمسلمين هو دور الفرد في تهذيب نفسه، وهنا أقصد قدرة الفرد (بدرجة تختلف من فرد لآخر) على تجاوز المجتمع والرجوع إلى ضميره الفردي الحر. فدوركايم يعتقد -كما أشرت في أولى فقرات هذا المقال- أن التماسك الاجتماعي هو الضامن الحصري والوحيد لانضباط الفرد بضوابط أخلاقية واجتماعية، لذلك لا نراه يركز على الفرد، فهو يبحث في كيفية إصلاح المجتمع، بحيث يدفع بالفرد دفعًا نحو الخيرية والأخلاقية.. ذلك ما قرره دوركايم فيما يتعلق بالفرد والمجتمع، وقد نظر له أيضًا في كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع".

وهنا تحضر في ذهني مجموعة من النصوص الدينية التي أشعر معها باحترام وتقدير لآدميتي، فهي نصوص تشعرني بالقدرة على تجاوز المجتمع، بل وبضرورة تجاوزه لأنني مكلف ومؤتمن، وأحمل مسؤولية أخلاقية كبرى. أذكر من هذه النصوص ما يلي:

  • {وكلُّهم آتيه يوم القيامة فردًا}.. (آية قرآنية).
  • {يا أيًّها الّذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضرُّكم من ضلَّ إذا اهتديتم}.. (آية قرآنية).
  • "لا يكن أحدكم إمَّعة؛ إن أحسن الناس أحسن وإن أساؤوا أساء" (حديث نبوي).

خلاصة القول، إنني -كمسلم- أجد أن التماسك الاجتماعي يدفع بالفرد نحو الخيرية دفعًا، وذلك عبر أدوات الرقابة الاجتماعية (الإجماع المجتمعي على تعريف ما هو معروف وما هو منكر- إشاعة المعروف علنًا ورفض المنكر علنًا عبر آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

إعلان

ذلك ما يجعلني أتفق مع دوركايم وأجد في أبحاثه موردًا يمكن أن ننهل منه في موضوع التربية الأخلاقية. غير أنني أعتقد بضرورة العناية بالفرد وتحميله مسؤوليته الأخلاقية، بحيث تأخذ العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع مجراها، ويُعترف بقدرة الفرد، لا أقول على تغيير المجتمع، بل تجاوزه على الأقل حين تستدعي الضرورة الأخلاقية ذلك.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان