تجد الهمّ الأكثر إلحاحًا للحكومات والملف الذي لا يغادر أي طاولة اجتماعات هو "الاستدامة"؛ يلقون الخطب الرنّانة عن التنمية المستدامة والحفاظ على الموارد، ويقيسون التقدم والازدهار بمؤشرات اقتصادية وجداول وإحصائيات وأرقام ليس للإنسان فيها مكان، متناسين أن الإنسان نفسه هو العنصر الأهم في المعادلة.. فكيف تحقق الدول الاستدامة في الاقتصاد أو الموارد إذا كانت عاجزةً عن ضمان استدامة أرواح مواطنيها؟
من المثير للسخرية أنهم يخططون لكيفية إدارة الأجيال القادمة لمواردها واحتياجاتها ومتطلباتها، بينما يقضون على كل شكل أو مظهر يضمن حتى وجود أجيال قادمة!
منذ أن راج مصطلح "الاستدامة" قبل نحو عقد من الزمان على لسان الأمم المتحدة أولًا، ثم الحكومات ثانيًا، تحوّل إلى شعار منتشر يجب أن يُذكر في أي محفل إقليمي أو عالمي؛ ليدلّ على حرص واهتمام المتحدث بـ "الكوكب" و"التخضير"، ولا تجد أي قائد إلا ويضع أهداف التنمية المستدامة (SDGs) في أجنداته القومية وخططه وإستراتيجياته الوطنية، في حين أن هؤلاء القادة الذين يزعجوننا بخطاباتهم الطويلة في المؤتمرات والقمم والأخبار عن الاستدامة، هم أنفسهم من يؤيدون ويدعمون شنّ الحروب والمجاعات وقتل الشعوب بالفقر والصراعات.
يتحدثون عن "مستقبل الكوكب" وكأن الإنسان، الذي هو أصل وأساس الحياة على الكوكب، ضمِن سلامته ومستقبله وحياته، وحان الآن وقت إيلاء الاهتمام لمستقبل الكوكب الذي يعيش عليه، وكأن التهديد له كل لحظة باندلاع الحروب ليس على يد من يحركون خيوط السلطة! ينادون بـ"الاستدامة البيئية" وهم يسمحون بتهجير الملايين، وتدمير المدن ومظاهر الحياة في الدول، يتحدثون عن "التنمية والازدهار والانتعاش الاقتصادي" وهم يبيدون الأيدي العاملة، ويهلكون ويذبحون ويحرقون البشر، ويرتكبون بحقّهم المجازر.
التناقض الصارخ هو ما يظهر أمام أعيننا في تعريف التنمية المستدامة الرسمي، وهو "تلبية حاجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها"؛ فمن المثير للسخرية أنهم يخططون لكيفية إدارة الأجيال القادمة لمواردها واحتياجاتها ومتطلباتها، بينما يقضون على كل شكل أو مظهر يضمن حتى وجود أجيال قادمة! أجيال سليمة، قادرة على العيش والعمل والسعي والنهوض بأوطانها، فبدون شعب سالم آمن، لا معنى لاستدامة الموارد أو الاقتصاد، فما قيمة "إنقاذ الغابات" و"العمل المناخي والبيئي" إذا كان الأطفال الذين سيحملون الأوطان على أكتافهم في المستقبل يموتون جوعًا؟
الاستدامة ليس من المفترض أن تكون مجرد مشاريع اقتصادية ضخمة، بل هي بالأساس مسألة إنسانية بحتة، فلا يمكن لدولة أن تدّعي التزامها بالتنمية المستدامة إذا كانت مواردها تُنفق على التسليح والإرهاب بدلًا من التعليم والصحة
لا يوجد ما يناقض فكرة الاستدامة أكثر من الحروب، والأكثر سخافة أن الدول الكبرى التي تموّل هذه الحروب هي نفسها التي تصنع وتوقع على اتفاقيات المناخ، وتتغنّى بأهداف التنمية المستدامة! أعتقد أنه حين تُدمّر المستشفيات والمدارس، وتُحرم أجيال كاملة من التعليم والغذاء والمأوى، فإن أي حديث عن "مستقبل مستدام" يصبح كلامًا أجوف، فالاستدامة الحقيقية تبدأ بوقف القتل والدمار، لأن الإنسان الذي يُقتل اليوم لن يعيش ليُشارك في غدٍ أفضل ويساهم في بنائه.
الاستدامة ليس من المفترض أن تكون مجرد مشاريع اقتصادية ضخمة، أو اختراعات تقنية أو استثمارات، بل هي بالأساس مسألة إنسانية بحتة، فلا يمكن لدولة أن تدّعي التزامها بالتنمية المستدامة إذا كانت مواردها تُنفق على التسليح والإرهاب بدلًا من التعليم والصحة.
أتمنى أن يأتي اليوم الذي يكترث فيه القادة لاستدامة شعوبهم أولًا، وضمان حياة كريمة للإنسان من المهد إلى اللحد، حياة ينال فيها حقه في الأمان والغذاء والرعاية الصحية والتعبير والتعليم والعمل، دون تمييز أو قمع أو خوف من الظلم.. حينها تصبح استدامة الموارد والاقتصاد والبيئة موضوعًا قابلًا للنقاش.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.