هل تشعل مواجهة إسرائيل وإيران حربًا إقليمية، وينزلق الكوكب إلى حرب عالمية ثالثة؟ الجواب عن هذا السؤال الخطير، والذي لا يملك أحدنا إجابته، يمكن أن تقرَّب صورته في نزال بين ملاكمين يتنافسان على لقب "من يحكم منطقة الشرق الأوسط". ولكن هذا النزال يُحسم بالنقاط، ولن تكون هناك ضربة قاضية.
إيران لن تستسلم، وستقاتل حتى آخر رمق وآخر طلقة وصاروخ وطائرة مسيرة، وإسرائيل لن تتراجع إن لم تكن اللكمات على وجهها وفي المناطق التي تؤلمها، واللكمات هذه ليست فقط عسكرية أو بشرية بل اقتصادية أيضًا، وهذا العامل يؤثر على الجميع، متحاربين كانوا أو داعمين أو وسطاء.
واشنطن على ما يبدو لا تريد إسقاط النظام الإيراني بل إضعافه، أما نتنياهو فيريد تحقيق حلم طالما راوده منذ دخوله إلى عالم السياسة، وهو القضاء على إيران، والإطاحة بنظامها، وتقديم نفسه كـ"بن غوريون جديد"
وإسرائيل تريد إخضاع إيران إستراتيجيًا، وأميركا تريد الإخضاع تفاوضيًا، وهنا يكمن الخلاف بين الدولتين الحليفتين؛ فهما تسعيان لسلوك طريقين مختلفين، ولكنهما تتفقان على الهدف.. وعلى طريقة حائكي السجاد، تتلقى طهران الضربات وتتعامل معها، ثم تحضر لرد "مدمر" -بحسب المسؤولين الإسرائيليين- وغير مسبوق في تاريخ إسرائيل، ويخلف عشرات القتلى والجرحى.
ومن الواضح أن إيران لن تعود إلى التفاوض النووي دون امتلاك أوراق قوة، أو فرض واقع جديد يسمح لها بالجلوس إلى الطاولة بشكل ندّي.
وواشنطن لن تسمح بأن تخرج حليفتها من هذه الحرب ضعيفة أو بصورة مهشمة؛ لأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وسّع دوافع شن الحرب لتصل إلى الوجود، وهذا يعني أن أي شيء غير الانتصار الكامل على إيران لن ينفع صورة نتنياهو التي تترنح داخليًا، وقد لا يقتصر التهديد لها على مستقبله السياسي فقط، بل يصل إلى الشخصي أيضًا.
على الضفة الأميركية، يتعامل الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع إيران بمبدأ رجل أعمال في "وول ستريت"؛ فهو يدعم إسرائيل في هجماتها على إيران، ويريد إضعافها وإضعاف نظامها، لكي تأتي إلى طاولة المفاوضات من دون أي أوراق، وبشروط مذلة وأقرب إلى الاستسلام.
إذ إن ترامب لا يهتم، ولا تعنيه الكرامة الوطنية والشعور القومي، ولا رد فعل الشعب الإيراني حين يجد أن البرنامج النووي الذي ضحى من أجله عشرات السنوات، وتحمل الحصار، ينتهي أمام عينيه وبأيدٍ إسرائيلية.
فواشنطن على ما يبدو لا تريد إسقاط النظام الإيراني بل إضعافه، أما نتنياهو فيريد تحقيق حلم طالما راوده منذ دخوله إلى عالم السياسة، وهو القضاء على إيران، والإطاحة بنظامها، وتقديم نفسه كـ"بن غوريون جديد".
ما حصل في إيران هو نسخة منقحة أو متطورة مما حصل مع حزب الله في الحرب الأخيرة على لبنان؛ واللافت أن المهاجم لم يتغير، والمستهدف هو الجهة نفسها
- ولكن.. هل شُنت هذه العملية الإسرائيلية من دون ضوابط أميركية؟
ترامب لم يقف فقط عند إعطاء الضوء الأخضر لنتنياهو لشن الهجوم، والتنسيق بين البلدين، بل وضع له الخطوط الحمراء والمحددات للضربة، وحرص على ألا تتحول إلى حرب إقليمية.
وخشي ترامب من أن يهرب نتنياهو إلى الأمام بسبب أزمته الداخلية واحتمال حل الكنيست، وبالتالي إسقاط حكومته، فيهاجم إيران ويشعل المنطقة.. فكان بين نارين؛ إما أن يسير معه في خططه المعدة -بحسب وسائل إعلام إسرائيلية- منذ 8 أشهر، أو يتركه ويضغط عليه، ولا أحد يعلم إن كان سينجح الضغط. فقرر ترامب أن ينقذ نتنياهو (الذي يتقن التعامل مع العقل الأميركي) من إنهاء مستقبله السياسي والذهاب إلى السجن، في مقابل أن ينسق معه ويبلغه مسبقًا بالضربة.
وبحسب تسريبات المواقع الأمنية الغربية، ترامب سمح بضربة، هي عبارة عن اغتيال قادة عسكريين ونوويين، وهؤلاء سيعتبرهم النظام الإيراني "شهداء"، وبناء عليه سيكون الرد الإيراني آتيًا ولكنه عقلاني، كما وصفه الرئيس الإيراني. بمعنى آخر، لن ينتج عن ذلك إشعال المنطقة.
- ما الذي حصل؟ ولماذا فوجئ الإيرانيون بهجمات هدد فيها ترامب والمسؤولون الإسرائيليون مرارًا وتكرارًا؟
وبحسب تسريبات المواقع الأمنية الغربية، فإن الضربات الأولى التي أربكت إيران، وهشمت قدراتها على الردع والرد، كانت من داخل إيران، والمسيرات التي اغتالت كبار القادة العسكريين والنوويين جاءت من اختراقات أمنية وتجسسية. وعلى قاعدة أن "الحرب خدعة"، وعندما تكون الخدعة إستراتيجية وتتكرر، فإن النتيجة تكون كارثية.
ما حصل في إيران هو نسخة منقحة أو متطورة مما حصل مع حزب الله في الحرب الأخيرة على لبنان؛ واللافت أن المهاجم لم يتغير، والمستهدف هو الجهة نفسها.
يؤكد خبراء عسكريون وأمنيون وجود خروقات أمنية هائلة في الحالتين، والتفوق الإسرائيلي ليس فقط في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؛ فمن دون العملاء على الأرض تكون هذه التقنيات عمياء
- كيف ذلك؟
الحزب ادّعى لنحو عام أنه يسند غزة، فيما كان الإسرائيلي يخطط لضربة قاضية له، وأُسس هذه الضربة كانت أمنية واستخباراتية وليست عسكرية، فخدع الحزب وأعطاه "الأمان" فشعر الحزب أنه متفوق، وفي ضربة خاطفة (أجبر عليها الإسرائيلي لأنه كُشف، بحسب الصحف الغربية والإسرائيلية) كانت عمليتا البيجر وأجهزة اللاسلكي، وبعدها اغتيالات الصف الأول، وقد استمر في هذه الحرب لمدة 66 يومًا.. هذه الحرب أنهكت الحزب، ودمرت أغلب سلاحه، وأفقدته توازن الردع والرعب.
وفي إيران، المشهد تكرر والخدعة أيضًا (وهذا مريب لدولة كبيرة مثل إيران)! كانت المفاوضات، وكان الحديث عن قرب اتفاق، ثم سجالات عالية السقف بين ترامب ونتنياهو، وتسريبات عن خلافات بين الرجلين لتطمئن إيران.. ثم تأتي الضربة من داخل إيران، وبشكل مفاجئ ومباغت اغتالت قادة البلاد العسكريين والنوويين، وتركت البلاد في حالة صدمة وفقدان للتوازن.
ويؤكد خبراء عسكريون وأمنيون وجود خروقات أمنية هائلة في الحالتين، والتفوق الإسرائيلي ليس فقط في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؛ فمن دون العملاء على الأرض تكون هذه التقنيات عمياء.
المستقبل يُحتسب بالساعات المفصلية وليس بالأيام، والمساعي الدبلوماسية تدخل على الخط بقوة ليُبنى على الشيء مقتضاه
هل المنطقة تشتعل؟
هي على صفيح ساخن، وعود ثقاب أو تهور إضافي يشعلها.. الواقع ضربة بضربة على طريقة نزالات الملاكمة، ولكن لا قواعد في هذا النزال، ولا حكّام لاحتساب النقاط.
والنزال قد يمتد لعدة جولات، والتهشيم يطول الطرفين، ومن سيبقى واقفًا سيفوز بالنزال، وإذا تمكن الملاكمان من الصمود فقد يُستدعى حكم نزيه، فيحتسب النقاط ويحسم هوية الفائز.
هذا كله إذا بقي الصراع محصورًا بين الطرفين المتحاربين، ولم تنجرّ له دول أخرى تشعر أنها ستكون التالية على قائمة الاستهدافات، فتدخل استباقيًا في الحرب.. ساعتها نعلن أن الحرب العالمية الثالثة بدأت.
المستقبل يُحتسب بالساعات المفصلية وليس بالأيام، والمساعي الدبلوماسية تدخل على الخط بقوة ليُبنى على الشيء مقتضاه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.