في ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة، شنت إسرائيل هجومًا جويًا واسع النطاق؛ استهدف مواقع عدة داخل إيران، في خطوة وصفتها تل أبيب بأنها "ضربة استباقية لمنع التهديد النووي الإيراني".
ردّت طهران بإطلاق عشرات الصواريخ الباليستية على أهداف إسرائيلية، في تصعيد جديد يهدد استقرار الشرق الأوسط.
يأتي هذا التفاقم في ظل توترات متصاعدة بين البلدين منذ سنوات، وسط محاولات إسرائيلية متكرّرة مُمنهجة لعرقلة البرنامج النووي الإيراني، ورفض إيراني مستمر لأي تدخّل خارجي في شؤونها السيادية.
قد تجرّ هذه الجولة العسكرية الشرق الأوسط إلى مواجهة إقليمية واسعة، خصوصًا في ظل تصاعد خطاب التطرّف داخل الحكومة الإسرائيلية
الضربة الأولى
وفق بيان رسمي صادر عن المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي صباح الجمعة (13 يونيو/ حزيران 2025)، شاركت 200 طائرة حربية من طرازات: (إف-35 وإف- 15 وإف-16) في الهجوم على إيران، واستهدفت أكثر من 100 موقع في عمق البلاد، أبرزها منشأة "نطنز النووية"، ومواقع عسكرية في إصفهان وطهران، وأكثر من 300 قنبلة موجهة من نوع (JDAM) أُسقطت، كما استخدمت ذخائر خارقة للتحصينات لضرب البنية التحتية للبرنامج النووي الإيراني.
صور أقمار صناعية نشرتها "أسوشيتد برس" بعد ساعات من الغارات، أظهرت دمارًا كبيرًا في بعض مراكز التخصيب، فيما أعلن معهد الدراسات الإستراتيجية في واشنطن (CSIS) أن الهجوم "ألحق ضررًا كبيرًا بنسبة تقترب من 40% في مرافق نطنز وآراك النووية".
إستراتيجية الصدمة الصاروخية
في صباح اليوم التالي، أطلق الحرس الثوري الإيراني أكثر من 150 صاروخًا باليستيا من طراز "خيبر شكن" و"ذو الفقار" و"قيام"، استهدفت قواعد جوية إسرائيلية في النقب والجليل، إضافة إلى منشآت حيوية في ميناء حيفا ومنطقة تل أبيب.
الجيش الإسرائيلي أعلن أن منظومة "القبة الحديدية" اعترضت حوالي 70% من الصواريخ، لكن الصدمة الإستراتيجية كانت في قدرة إيران على الوصول العلني والعنيف إلى العمق الإسرائيلي. القصف خلّف وفق مصادر "نجمة داوود الحمراء" إصابات عديدة وبعضها حرجة، إلى جانب خسائر مادية في البنية التحتية.
لقد سبق لإسرائيل أن استخدمت منطق "الضربة الاستباقية" مرات عدّة، ليس فقط ضد طهران بل أيضًا ضد بيروت وبغداد ودمشق، في سياسة توسعية هدفها إعادة تشكيل قواعد الاشتباك الإقليمي
الهروب إلى الأمام في ظل المحاكمة
في قلب هذا التصعيد، بدا واضحًا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يخوض الحرب فقط ضد البرنامج النووي الإيراني، بل أيضًا ضد أزماته السياسية والقضائية الداخلية. نتنياهو، الذي يواجه 5 قضايا فساد أمام محكمة القدس المركزية، يعيش عزلة سياسية متزايدة حتى من داخل معسكره اليميني.
وثيقة مسرّبة نشرتها صحيفة "هآرتس" أكّدت أن أحد أهداف التصعيد الحالي هو "خلق واقع أمني استثنائي يؤجّل الإجراءات القضائية"، إضافة إلى استطلاع حديث نشره معهد الديمقراطية الإسرائيلي أظهر أن شعبية نتنياهو هبطت إلى 31%، في ظل اتهامات له باستخدام ذريعة "التهديد النووي الإيراني" كوسيلة للبقاء في السلطة.
صناعة التصعيد
في مشهد يعكس تحولات عميقة في وظيفة الحرب الإقليمية، بات واضحًا أن نتنياهو يستخدم التصعيد مع إيران كأداة إستراتيجية للهروب من أزماته الداخلية، فهو يرى إقحام إسرائيل بحرب مع جبهة فعّالة لتأجيل محاكمته وكسب غطاء سياسي وشعبي متجدد، حتى لو كان الثمن زعزعة استقرار المنطقة بأكملها.
وبحسب تسريبات كشفتها صحيفة هآرتس، قال نتنياهو في جلسة مغلقة: "المعركة مع إيران هي معركتي الشخصية للبقاء خارج الزنزانة رقم 5 في سجن مجيدو".
وبينما تحاول تل أبيب تسويق ضربتها لإيران بذريعة واهية، ممّا يضعها في خانة الذرائع السياسية لا التهديدات الإستراتيجية الواقعية. وقد سبق لإسرائيل أن استخدمت منطق "الضربة الاستباقية" مرات عدّة، ليس فقط ضد طهران بل أيضًا ضد بيروت وبغداد ودمشق، في سياسة توسعية هدفها إعادة تشكيل قواعد الاشتباك الإقليمي.
في المقابل، لا تبدو إيران راغبة في توسيع رقعة المواجهة، وقد جاء الرد الإيراني بعد ساعات قليلة من الهجوم الجوي الإسرائيلي المكثّف، لكنه اتسم بضبط النفس الإستراتيجي.
وهو ما يشير إلى رغبة طهران في الحفاظ على نوع من الردع المحدود ودون إحداث دمار واسع، كما فعلت الغارات الإسرائيلية التي راح ضحيتها 78 شخصًا، منهم قادة عسكريون بارزون وإصابة ما يربو على 320 معظمهم مدنيون.
إيران، رغم صلابة خطابها الرسمي، لا ترى في الحرب حلًا، لكنها تدرك تمامًا أن الصمت في وجه اختراق سيادتها هو تفريط بأمنها القومي.
هنا يتضح أن خلط السرديتين – كما تحاول بعض الأطراف تصويره – لا يخدم الحقيقة، فإسرائيل اليوم بقيادة نتنياهو، هي الطرف المبادر بالعدوان، وهي من يحمل أجندة توسعية واضحة تسعى لإعادة صياغة المعادلة الإقليمية تحت غطاء "الدفاع عن النفس".
أما إيران، فهي تتحرّك في إطار دفاعي، وإن بوسائل هجومية، لردع تهديدات وجودية طالت عمقها الإستراتيجي.
في سياق توحيد الداخل الإيراني، نشر معهد دراسات الأمن القومي الإيراني (INSS) ورقة تحليلية قالت فيها إن "إيران الآن أكثر حرية في تجاوز خطوط التخصيب، تحت غطاء الردع والدفاع عن السيادة"
ما الذي تريده إيران بعد الضربة؟
الخيارات المتاحة أمام طهران تتوزّع بين التصعيد المنضبط وبين استثمار الضربة لتعزيز شرعيتها النووية؛ تصعيد محسوب: استمرار الردود الصاروخية دون الوصول إلى حرب شاملة، فضلًا عن دبلوماسية هجومية تُوظِّف العدوان الإسرائيلي في المحافل الدولية للانسحاب من التزاماتها النووية تدريجيًا.
في سياق توحيد الداخل الإيراني، نشر معهد دراسات الأمن القومي الإيراني (INSS) ورقة تحليلية قالت فيها إن "إيران الآن أكثر حرية في تجاوز خطوط التخصيب، تحت غطاء الردع والدفاع عن السيادة".
تدرك الأنظمة العربية أن الانحياز الصريح في هذه المواجهة قد يكلّفها كثيرًا؛ إقليميًا واقتصاديًا، خاصة مع هشاشة الوضع في أسواق النفط والطاقة
الموقف العربي
المواقف العربية اتسمت بالحذر، لكنها دعت إلى "ضبط النفس"، بينما زاد إنتاج النفط السعودي إلى 10.6 ملايين برميل لتعويض تقلبات السوق، بينما الإمارات أدانت الضربات على المدنيين الإيرانيين، وأبدت استعدادًا للوساطة.
أمّا البيان المصري فقد غلب عليه التموضع المحسوب بدعوته إلى "العودة للمسار الدبلوماسي"، فيما جاء البيان العراقي بنبرة باهتة وتحفّظ ملحوظ دون تحميل أي طرف المسؤولية.
في العمق، تدرك الأنظمة العربية أن الانحياز الصريح في هذه المواجهة قد يكلّفها كثيرًا؛ إقليميًا واقتصاديًا، خاصة مع هشاشة الوضع في أسواق النفط والطاقة، وقد أغلق الاحتلال الإسرائيلي حقل "ليفياثان" البحري، ما أدى إلى وقف ضخ الغاز إلى كل من مصر والأردن.
حرب لا مفرّ منها
قد تجرّ هذه الجولة العسكرية الشرق الأوسط إلى مواجهة إقليمية واسعة، خصوصًا في ظل تصاعد خطاب التطرّف داخل الحكومة الإسرائيلية، فوجود شخصيات مثل نتنياهو وسموتريتش وبن غفير على رأس سلطة القرار، يجعل الحرب القادمة شبه حتمية. وكما يقول المثل الأردني: "إذا ما تعكّرت ما بتصفى"، أي أن التوتر إذا لم يتصاعد لن يهدأ.
وفي ظل غياب أفق لأي حل سياسي؛ دوليًا أو عربيًا، قد تكون الحرب المقبلة بداية النهاية للاحتلال الإسرائيلي نفسه، لا عبر مفاوضات أو ضغوط، بل عبر انهيار إسرائيل من داخلها.
فكل تأجيل للحرب، ليس سوى انتظار لها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.