يشهد الشرق الأوسط حاليًّا ما يشبه مناورة حرب القرن الـ 21 الكبرى، حيث تتحول المنطقة إلى رقعة شطرنج جيوسياسية معقدة، تخاض فيها الحرب بين إيران وإسرائيل، مدعومتين بقوى عالمية عظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين.
ولا يقتصر هذا الصراع على المواجهة العسكرية المباشرة، بل يتعداها إلى معادلة إستراتيجية دقيقة، تتطلب مناورات عسكرية ودبلوماسية مكثفة من كافة الأطراف.
تسعى إيران إلى استنزاف قدرة إسرائيل على السيطرة على أجوائها، معتبرة أن قدرة طيرانها على الاستمرار في الجو ستُستنزف سريعًا
المعادلة العسكرية بين إيران وإسرائيل: استنزاف وتحدٍّ
في جوهر هذه المناورة، تكمن معادلة عسكرية حرجة بين إيران وإسرائيل؛ الإستراتيجية الإيرانية الأساسية في الحرب الآن هي تحييد أميركا، وحرب السماوات المفتوحة.
تسعى إيران إلى استنزاف قدرة إسرائيل على السيطرة على أجوائها، معتبرة أن قدرة الطيران الإسرائيلي على الاستمرار في الجو ستُستنزف سريعًا.
وبالتالي، تبطئ إيران حاليًا في الكشف عن أهم ما تملكه وعن صواريخها الثقيلة والأكثر تقدمًا ومنصات الإطلاق، وتكتفي بالتعامل من خلال الصواريخ ومنصات الإطلاق التقليدية.
هذا التباطؤ نابع من إدراكها أن إسرائيل ترغب في هذه اللحظة بضرب صواريخها الثقيلة قبل أن تكتمل دفاعاتها وتؤمن منصات إطلاقها. وبالتالي، تناور إيران لعدم الكشف عن قدراتها الصاروخية الثقيلة في هذا التوقيت المبكر.
هذا الوضع يشبه قبول مبادرة روجرز عام 1967، حيث تهدف إيران لكسب الوقت لترتيب موقفها الداخلي وقدراتها الصاروخية، واستكشاف البيئة المحيطة بنظامها (مثل مواقف روسيا والصين)، وترتيب حساباتها الخاصة بالتحالفات.
ولتحقيق هذا الهدف، ينبغي استنزاف قدرات إسرائيل على الرصد والتحليق في سماء إيران، من خلال إجهاد الطيران الإسرائيلي دون تحقيق قمع للقدرات الصاروخية الإيرانية ومنصات إطلاقها.
في المقابل، تعمل إيران على استنزاف القدرات الدفاعية الإسرائيلية بعمليات الضرب الصاروخي والمسيرات؛ من أجل الوصول إلى فتح السماء الإسرائيلية، واستخدام إيران سلاحها التكتيكي المتميز -وهو المسيرات- باعتباره دقيقًا من ناحية، وأقل تكلفة وتأثيرًا على مستوى إثارة الرأي العالمي.
حسابات روسيا والصين ليست بسيطة؛ فالصين وروسيا لا تريدان أن يشتعل العالم، وإنما تريدان أن تحققا أهدافهما وتنجحا في تغيير الوضع العالمي القائم دون زلزال يدمر العالم، لأنهما لن تستفيدا من النتيجة
أهداف إسرائيل
تعمل إسرائيل على المناورة والتقدم.. هي ترغب في امتلاك السيادة الجوية، وضرب قواعد الصواريخ وقدرات الإطلاق الصاروخي الإيراني، كما ترغب في دخول أميركا سريعًا للتعامل مع هذا الوضع، معتبرة أن قدرة الطيران الإسرائيلي على الاستمرار في الجو ستُستنزف سريعًا، وأن قدرة الدفاعات الإسرائيلية تمثل تحديًا في ذات الوقت.
حسابات القوى الكبرى.. ما بين التحرك المحسوب ونافذة الفرصة الضيقة
إيران تعلم أن من الخطأ الآن ارتكاب أي حماقة ضد أميركا، وبالتالي هناك نوع من التفاهم بأن تبقى أميركا خارج اللعبة، في مقابل عدم استهداف إيران للمصالح الأميركية، وبالتالي يكون الصراع إيرانيًّا إسرائيليًّا.
مقابل هذا التفاهم يظهر هناك تفاهم آخر، وهو أنه إذا تدخلت أميركا بشكل مباشر فإن حلفاء إيران سيتدخلون.
حسابات حلفاء المحور الشرقي (روسيا والصين)
لذلك، تتمثل أبرز الخيارات المتاحة أمام الصين وروسيا في:
- التدخل المحسوب، والذي سيكون على حساب إيران لاجتذاب الأطراف المختلفة في المنطقة، التي تبحث عن التحوط ووسيط للتفاهم غير أميركا.
- أو دعم إيران في ضرب إسرائيل والتخلص من التحدي الإسرائيلي بشكل مركز.
- أو العمل على توسيع المعركة لتصبح ضد أميركا وإسرائيل في المنطقة بشكل عام.
- أو دفع الأمور إلى مستوياتها القصوى من خلال ضرب النفط وإشعال توتر موسع في الخليج.
لكن حسابات روسيا والصين ليست بسيطة؛ فالصين وروسيا لا تريدان أن يشتعل العالم، وإنما تريدان أن تحققا أهدافهما وتنجحا في تغيير الوضع العالمي القائم دون زلزال يدمر العالم، لأنهما لن تستفيدا من النتيجة.
كما أنهما تريدان استغلال هذا الموقف الأميركي والإسرائيلي المسعّر للحرب لتحرزا نقطة على حساب أميركا كوسيطي سلام في المنطقة، وبالتالي العمل على احتواء أي اندفاع إيراني لتفجير المنطقة لكسب الخليج.
يحاول ترامب أن يناور مع الروس قائلًا: "إنني لن أحاول أن أغير النظام في إيران، وإنما أريد أن أجعله نظامًا محايدًا، لا ضدي ولا ضدك، لا ضد روسيا ولا ضد أميركا وإسرائيل"
حسابات أميركا
تعمل أميركا على المناورة واستغلال نافذة الفرصة المتاحة، لتدمير قدرات إيران الهجومية قبل تدخل القوى الأخرى، وبالتالي التفاوض معها حول تجنب الأسوأ، في حين أنها ستعمل حتمًا على التقدم للأمام بعد احتواء الآخرين.
هنا، يحاول ترامب أن يحيد الصين وروسيا -وبالأخص روسيا- من خلال فكرة أنه لن يعمل على إسقاط النظام ولا تقسيم إيران، لأن ما تريده أميركا وإسرائيل ببساطة هو تأمين مدخل المنطقة ومخرجها؛ مدخل المنطقة من خلال الخليج العربي، ومخارجها في سواحل المتوسط.
تأمين مدخل المنطقة في الحسابات الأميركية يعني إبعاد إيران أصلًا عن الخليج العربي، بفصل إقليم الأحواز العربي وإعادة تقسيم إيران. ومن ناحية أخرى، العمل على تحويل إيران إلى قوة مضادة لروسيا.. يحاول ترامب أن يناور مع الروس حول هذا الأمر قائلًا: "إنني لن أحاول أن أغير النظام في إيران، وإنما أريد أن أجعله نظامًا محايدًا، لا ضدي ولا ضدك، لا ضد روسيا ولا ضد أميركا وإسرائيل".
روسيا تتخوف من أن هذه يمكن أن تمثل الفرصة الأخيرة بالنسبة لها في الشرق إذا ما أخطأت الرهان وذهبت في الرهان على إيران؛ سواء في إستراتيجية استنزاف أو غيرها، باعتبار أن أميركا لديها الحصان الرابح في المشهد وهو إسرائيل، وبالتالي سيتم استبعاد روسيا تمامًا من الشرق الأوسط. أما إذا اختارت الحياد، فإنه يمكن أن يكون لها حظ في الشرق الأوسط، وتفاهمات مع أميركا وإسرائيل في النهاية.
هذه معضلة "تجنب الأسوأ" التي يعمل ترامب على فرضها على روسيا؛ لأن البديل هو أن إسقاط النظام في إيران، وبالتالي محاصرة روسيا لتواجه موقفًا خطيرًا في وسط آسيا كله، من إيران إلى دول وسط آسيا وحتى تركيا؛ باعتبار أن هذه المنطقة التي كانت روسيا تعمل على إغلاقها تقليديًّا أمام أميركا ستكون قد تم اختراقها بقوة، ويتبع ذلك فتح أميركا والغرب قلب أوراسيا وتحويله ضد روسيا، وبالتالي خلق جبهة استنزاف واسعة وتدميرية بالنسبة لروسيا.
من ناحية أخرى، ستكون حالة تدميرية بالنسبة للصين، لأن الصين حينها سيكون عليها أن تخوض حربًا متعددة الجبهات: حربًا في وسط آسيا لتأمين طرق الإمداد والتصدير الخاصة بها للوصول إلى الأسواق الأوروبية من خلال البر، وأخرى لتأمين موقفها من خلال البحر وقدرتها على الوصول إلى الأسواق وارتباطاتها العالمية، والذي تواجه فيه تحديات كبيرة بسبب تايوان والتحالفات الأميركية حول بحر الصين الجنوبي.
وبالتالي، تمتلك أميركا وضعية سيد اللعبة في مقابل الجميع.. نافذة الفرصة الضيقة أمام الجميع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.