الدبلوماسية البيئية.. التفاوض من أجل الحياة

Scavenger hunt for kid in the park. Girl learning about environment. Natural education activity for World Earth day. Exploring in spring.
أصبحت البيئة هاجسًا لدى الجميع لما بدأنا نراه من آثار الاعتداء البشري على الكوكب والطبيعة (شترستوك)

كان عقد السبعينيات من القرن العشرين عقدًا ثوريًا فيما يتعلق بالبيئة وقضاياها؛ فلم يكن مصطلح "البيئة" قبل ذلك بذات الدلالة التي يمثلها اليوم، ولم تكن الأنشطة البشرية بتلك الخطورة التي تمثلها على الكوكب وأنظمته الإيكولوجية كما نراها حاليًا.

فتقنيات الرصد والتحليل الخاصة بالبيئة لم تكن كما نشهدها اليوم من حيث الدقة والاهتمام، وإن كان الحديث عن التلوث وآثار النشاط الصناعي ليس وليد اليوم، بل يعود ذلك إلى بدايات الحقبة الثورية الصناعية.

إذ طالما كتب العديد من المفكرين والأدباء عن هواء المدينة الملوث، وما سببته عوادم المصانع من مخاطر على الهواء ومصادر المياه ومجاريها، بل واشتهر تيار أدبي في تلك الفترة بالدعوة إلى الطبيعة وبساطة الريف وحياته، وانتشرت الكتابات النقدية التي تتعرض للمجتمع الصناعي وتعقيداته، وما سببه من أضرار للطبيعة.

أصبحت البيئة هاجسًا لدى الجميع لما بدأنا نراه من آثار الاعتداء البشري على الكوكب والطبيعة؛ إذ لم يعد الأمر مجرد تكهنات وتحذيرات من آثار ومخاطر محتملة، بل أصبح واقعًا نعيشه يوميًا ونحاول النجاة منه

بيد أن ذلك بقي في نطاقات ضيقة ومحدودة وأقرب إلى المحلية، حتى جاء القرن العشرون، ومعه ذلك الطوفان الشرس من الأنشطة الصناعية والعمرانية، والأنشطة العسكرية بأسلحتها الفتاكة، وأدخنة المصانع وعوادم المركبات المتزايدة يومًا بعد يوم بشكل جنوني مع ما تحمله من الغازات الدفيئة، والقطع الجائر للغابات والأشجار، واستخدام الكيماويات والمبيدات الحشرية القاتلة لكل صور الحياة في البر والبحر والجو، إضافة إلى الأنشطة الإشعاعية والتجارب النووية، خاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وما نلقيه في البحار والمحيطات من نفايات بلاستيكية بالأطنان، وما يسببه الاحتباس الحراري من مخاطر على صحة الشعاب المرجانية وقدرة المحيطات على التوازن الحراري والتحكم في المناخ.

حتى إذا كان عقد السبعينيات، بدأنا نحصد تلك الآثار المتراكمة ببطء مع مرور الزمن، ليس فقط على مستوى المجتمعات المحلية، بل امتدت تلك الآثار إلى الدول المتجاورة، بل واتسع نطاق التأثيرات الضارة إقليميًا وقاريًا، حتى صار اليوم دوليًا عبر البحار والتربة والهواء والغذاء.

إعلان

وأصبح مصطلح "البيئة" مصطلحًا خطيرًا، فرض نفسه بقوة ليس فقط في الأكاديميات العلمية والهيئات البحثية، بل على مائدة السياسة الدولية وعلى مستوى القادة وصناع القرار، وصار رقمًا صعبًا في معادلات الاقتصاد والتنمية.

لم يكن ذلك في الحسبان حتى بدأ النزيف البيئي يعلن عن وجوده الصارخ؛ فقد أصبحت البيئة هاجسًا لدى الجميع لما بدأنا نراه من آثار الاعتداء البشري على الكوكب والطبيعة؛ إذ لم يعد الأمر مجرد تكهنات وتحذيرات من آثار ومخاطر محتملة، بل أصبح واقعًا نعيشه يوميًا ونحاول النجاة منه، وأن نبحث سبل إنقاذ كوكبنا المريض قبل أن تصبح الأوضاع كارثية وتتجاوز قدرتنا على الحل.. بل إنها بدأت تأخذ هذا المنحى بالفعل.

يزيد الصراع الخطورة أكثر وأكثر على أنظمتنا البيئية الهشة، التي بدأت تعاني بشدة تحت وطأة تطرف أنشطتنا البشرية من أجل المزيد والمزيد من جني الأرباح بأي ثمن، حتى لو كان الثمن نفاد تلك الموارد

كانت الأزمات البيئية تأخذ طابع الصدام والصراع؛ فالتنافس على الموارد الطبيعية كان أحد دوافع الحروب قديمًا وحديثًا، والتعامل مع الموارد يتم بصيغة السيادة والسيطرة، إلا أن المخاطر المتتالية فرضت على أجندة القادة حتمية اللجوء إلى التفاوض والحوار، وإيجاد سبيل آخر غير الصدام الذي يفاقم الكارثة والأزمة ولا يحلها.

مثال ذلك في الصراع الذي شهدناه مؤخرًا بين باكستان والهند، وخلافهما القديم بسبب موارد المياه وخاصة مياه نهر السند، رغم أنه في عام 1960 تم توقيع اتفاقية بينهما، خففت كثيرًا من حدة الصراع، وأثبتت أن التفاوض حل لا بديل عنه من أجل العيش المشترك وتقاسم الموارد.

ويزيد الصراع الخطورة أكثر وأكثر على أنظمتنا البيئية الهشة، التي بدأت تعاني بشدة تحت وطأة تطرف أنشطتنا البشرية من أجل المزيد والمزيد من جني الأرباح بأي ثمن، حتى لو كان الثمن نفاد تلك الموارد، أو انهيار البيئات التي أنتجتها عبر ملايين السنين منذ نشأة الارض.

فبرزت الدبلوماسية التي تدعو إلى التفاوض السياسي من أجل وقف الحروب أو فض النزاعات، وإقرار صيغ مناسبة لتقاسم الثروات، وتحديد مناطق النفوذ، وتقليل فرص الصدام المهلك؛ فصارت البيئة مكونًا أساسيًا جديدًا في الدبلوماسية، وعلى مائدة التفاوض بين الدول.

ورغم حداثة المفاوضات الخاصة بالمخاطر التي تهدد الأنظمة البيئية، فإن لها جذورًا قديمة وسوابق دبلوماسية، كما حدث في القرن الثامن عشر أثناء النزاع الأوروبي، وحروب الوراثة التي دارت بين روسيا بقيادة فريدريك الأكبر من جهة والنمسا وساكسونيا وحلفائهما من جهة أخرى، حيث تفاوض فريدريك على معاهدة سلام مع مملكة ساكسونيا عام 1748، واتفق الطرفان على الحفاظ على غاباتهما المشتركة.

كانت هذه المعاهدة من أولى الاتفاقيات الدولية التي أقرت بأهمية حماية البيئة، وقد شكلت هذه الاتفاقية سابقة للجهود الدبلوماسية المستقبلية، وأظهرت قوة الدبلوماسية البيئية في حل النزاعات وتعزيز التعاون بين الدول.

من منظور دبلوماسي، كان مؤتمر ستوكهولم عام 1972 إنجازًا كبيرًا.. لقد تجاوز حدود نظام الأمم المتحدة الذي اعتمد على مفهوم سيادة الدولة، وشدّد على أهمية العمل المشترك من أجل الصالح العام

كان الحدث الأبرز والثوري بالنسبة للدبلوماسية البيئية هو مؤتمر ستوكهولم في سبعينيات القرن المنصرم؛ حيث شجعت السويد على عقد قمة هي الأولى من نوعها في تخصيص اجتماع دولي لقضايا البيئة.

كانت تلك الدعوة أقرب إلى إعلان حالة طوارئ بيئية لإنقاذ كوكب معتل، بدأت ظواهر مرضه تتضاعف وتصيب الجميع، بلا تفرقة ولا اعتراف بحدود سياسية ولا انتماءات عرقية، وهو ما جعل مهمة الحوار الدولي أسهل من أجل حماية بيئة الكوكب، باعتبارها البيت الذي يؤوينا جميعًا.

إعلان

من منظور دبلوماسي، كان مؤتمر ستوكهولم عام 1972 إنجازًا كبيرًا.. لقد تجاوز حدود نظام الأمم المتحدة الذي اعتمد على مفهوم سيادة الدولة، وشدّد على أهمية العمل المشترك من أجل الصالح العام.

وأصدر المؤتمر إعلانًا تضمن مبادئ لتوجيه الإدارة البيئية العالمية مستقبلًا، ومهد الطريق من أجل اتفاقات ومفاوضات أخرى جاءت بعده، مثل مؤتمر الأرض وبروتوكول مونتريال، الذي يعد أحد أنجح الاتفاقيات في تاريخ الأمم المتحدة والدبلوماسية الدولية بصفة عامة؛ حيث التزمت الدول التي وقعت عليه بالاتفاقية من أجل إنقاذ طبقة الأوزون، وإيقاف استخدام مركبات الكلورفلوركربون، التي تسبب تآكل تلك الطبقة الحامية للكوكب من مخاطر أشعة الشمس.

لقد شعر الجميع بالخطر، وبدأنا بالتحرك.. واعتبر البعض تلك الفترة وبعض نجاحاتها بمثابة عصر صعود للدبلوماسية البيئية، إلا أن الخطر عاد من خلال المصالح الرأسمالية الضيقة، وصعود أيديولوجيات يمينية لا تقيم للبيئة اعتبارًا، مثلما نرى الآن في الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب، وانسحاب الولايات المتحدة -وهي واحدة من الدول الكبرى المتسببة بأضرار هائلة لبيئة الأرض- من اتفاقيات بيئية دولية، مثل اتفاقية باريس للمناخ وغيرها من الالتزامات البيئية للحد من استخدام الوقود الأحفوري، المتهم الأكبر في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

وهذا الأمر شجع دولًا أخرى على الانسحاب والتنصل من الالتزامات البيئية، وعدم أخذ العلم ودراسات العلماء والباحثين على محمل الجد، بل والتشكيك فيها.

لقد شكل ذلك تراجعًا خطيرًا، وتحديًا هائلًا أمام الدبلوماسية البيئية الدولية لتخوض معارك من أجل حماية الكوكب، ومستقبل الحياة عليه لنا وللأجيال القادمة، والالتزام البيئي في قرارات الساسة، والوقوف أمام الدول المارقة والشركات الكبرى وأصحاب المصالح المتربحين من الكوارث، والذين لا يعبؤُون بشيء سوى الربح والمزيد من الربح، ولو أدى ذلك إلى انهيار الكوكب كله فوق رؤوسنا جميعًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان