شعار قسم مدونات

الشعارات السياسية بين التنظير القيمي والتبرير الرغائبي

الكاتبة: عندما نتحدث عن المبادئ القيمية فنحن نتحدث بالضرورة عن القيم التي ينبغي أن توجه السلوك السياسي (رويترز)

تُعدُّ الشعارات السياسية من أبرز أدوات الاتصال السياسي عبر التاريخ؛ إذ تؤدي دورًا مركزيًا في نقل الرسائل والأفكار من النخب الحاكمة إلى الجماهير عبر رموز مركزة وذات أثر بالغ.

يكشف هذا النمط من الاتصال عن طبيعة العلاقة بين الأنظمة السياسية وآليات التأثير الجماهيري، حيث تمتلك الشعارات قدرةً كبيرةً على شحن العواطف، وتوجيه الرأي العام، وشرعنة الفعل السياسي، وتأطير الصراعات ضمن سرديات تتسم بازدواجية بين القيم الأخلاقية والمصالح الذاتية.

ويفتح هذا الاستخدام المزدوج للشعار السياسي الباب أمام إشكالية مركزية، وهي التناقض بين التنظير القيمي الذي يفترض صدق النوايا وسمو الأهداف وتجلي الغايات، والتبرير الرغائبي الذي يوظف القيم لتحقيق مصالح ضيقة أو محدودة سياسيًا، ومرجوحة أو باطلة شرعًا.

تتحول الشعارات السياسية إلى أقنعة ناعمة تخفي خلفها الأهداف الحقيقية للقرار السياسي، وتُستخدم أداةً لتضليل الرأي العام وتحصين السياسات القمعية بمسوغات أخلاقية زائفة

"الحرية والديمقراطية والسلام والتسامح"!

عندما نتحدث عن المبادئ القيمية؛ فنحن نتحدث بالضرورة عن القيم التي ينبغي أن توجه السلوك السياسي، مثل: العدالة، والكرامة، والتسامح، والسلام.

ويفترض بالشعارات السياسية المستندة إلى هذه المبادئ أن تكون نزيهة وصادقة، وتسعى لتحقيق المصلحة العامة؛ غير أن الواقع السياسي كثيرًا ما يكشف عن مفارقة مؤلمة، حيث تُستغل هذه المبادئ كغطاء لتمرير قرارات وممارسات لا تنسجم مع مضامينها، فعلى سبيل المثال، ترفع بعض الدول شعارات مثل "الحرية والديمقراطية" عنوانًا لسياساتها، في الوقت الذي تقيد فيه الحريات وتهمّش فيه فئات بعينها داخل مجتمعاتها، أو تنتهج ممارسات إقصائية وتقييدات صارمة قد تنتهي بإجراءات عقابية تمس الحقوق والحريات الأساسية!

وبالمثل، تروج دول أخرى لشعارات براقة مثل "السلام" و"التسامح"، فتقيم علاقات تطبيعية مع أنظمة إجرامية لا تؤمن بالسلام ولا بالتعايش، كحال الاحتلال الصهيوني، في الوقت الذي تتجاهل فيه شعوبًا أخرى مضطهدة تنادي بحقها في الحرية والكرامة، رغم الرابط الديني والثقافي الذي يجمعها بها، وهو ما يعد تناقضًا صارخًا مع جوهر هذه القيم المعلنة!

إعلان

في مثل هذه السياقات، تتحول الشعارات القيمية من أدوات للتعبير عن المبادئ إلى أدوات دعائية تجمّل السياسات وتضلّل الرأي العام، دون التزام حقيقي بالمضامين الأخلاقية التي ترفعها!

وللخروج من هذا المأزق؛ تلجأ هذه الأنظمة إلى انتهاج خطاب تبريري ذي طابع رغائبي، تتذرع فيه بشعارات من قبيل: الحفاظ على التنمية المستدامة، أو النهوض بالاقتصاد، أو تعزيز الأمن القومي، أو صون السلم الأهلي، أو مكافحة الإرهاب، أو التصدي لخطاب الكراهية.. وغيرها من الشعارات ذات الطابع القيمي.

ويأتي هذا الخطاب في إطار دعائي ممنهج يبدو قويًا ومقنعًا في ظاهره؛ إلا أنه غالبًا ما يوظف القيم لخدمة أجندات لا تنبع من حرص حقيقي على الاستقرار، بل من دوافع سلطوية أو اقتصادية أو أيديولوجية محضة.

وهكذا تتحول الشعارات السياسية إلى أقنعة ناعمة تخفي خلفها الأهداف الحقيقية للقرار السياسي، وتُستخدم أداةً لتضليل الرأي العام وتحصين السياسات القمعية بمسوغات أخلاقية زائفة.

الإسلام يدعو إلى العدل مع المخالف، ويقر الاختلاف الديني، كما تجلى ذلك في وثيقة المدينة وفي سيرة النبي ﷺ، لكنه لا يقر بمساواة الحق والباطل، ولا يذيب الفوارق العقدية تحت عناوين عامة مثل "الوحدة الإنسانية" أو "المواطنة العالمية"

"فرض السلام بالقوة"!

يعد شعار "نفرض السلام بالقوة" الذي يرفعه الجيش الأميركي من أبرز الأمثلة المعاصرة على استغلال الشعارات القيمية لخداع الرأي العام وتبرير الهيمنة؛ فعلى الرغم من مظهره الأخلاقي المضلِّل؛ غالبًا ما يستخدم هذا الشعار لتبرير التدخلات العسكرية في دول تتمتع بثروات طبيعية أو بموقع جيوسياسي إستراتيجي، كما حدث في العراق وأفغانستان، ومؤخرًا في غزة من خلال دعم الولايات المتحدة غير المشروط للكيان الصهيوني.

وقد أثبتت الوقائع أن هذه التدخلات لم تُفض إلى السلام كما يروج، بل أدت إلى دمار واسع، واحتلال طويل، ونهب للموارد، وقتل للمدنيين الأبرياء، ما يبرز التناقض الصارخ بين الشعار القيمي والممارسة الفعلية، ويكشف كيف تتحول القيم في الخطاب السياسي إلى أدوات تبرير لا صلة لها بجوهر الأخلاق أو بالغايات المعلنة.

"إخاء الأديان"!

من بين الشعارات المتداولة في المشهد السياسي والدبلوماسي المعاصر يبرز شعار "إخاء الأديان"، الذي يبدو في ظاهره دعوة للتسامح والتعايش؛ غير أنه يخفي في جوهره إشكاليات عقدية ومنهجية عميقة، خاصة حين يقدَّم كبديل عن التصور الإسلامي الواضح للهوية والتمييز بين الحق والباطل.

إن الإسلام يدعو إلى العدل مع المخالف، ويقر الاختلاف الديني، كما تجلى ذلك في وثيقة المدينة وفي سيرة النبي ﷺ، لكنه لا يقر بمساواة الحق والباطل، ولا يذيب الفوارق العقدية تحت عناوين عامة مثل "الوحدة الإنسانية" أو "المواطنة العالمية".

من هنا، فإن الشعار حين يستخدم لتبرير التنازل عن الثوابت العقدية، أو تمهيد الطريق لتطبيع العلاقات مع كيانات مخالفة للإسلام في جوهرها ومشروعها، يصبح أداةً خطابية ناعمة تروَّج بها مشاريع تغريبية أو سلطوية، تسهم في تمييع المفاهيم، وتفكيك البنية القيمية للمجتمعات.

الأخطر من ذلك، أن هذا الشعار يوظَّف أحيانًا لإعادة تشكيل الهوية الإسلامية، ضمن رؤية علمانية تقدم "المواطنة" كبديل عن "الأمة"، وهو ما يفضي في نهاية المطاف إلى تراجع الخطاب الإسلامي لحساب رؤى سياسية براغماتية، تهدف إلى السيطرة تحت ستار التعايش، لا إلى بناء تعايش حقيقي قائم على الوضوح العقدي والاحترام المتبادل.

إن المعيار الحقيقي في التعامل مع الشعارات الدينية ليس في رفعها نظريًا، بل في الالتزام العملي بمضمونها القيمي، وفي مدى تعبيرها عن العدل والرحمة والتوازن في تطبيق الحكم والتشريع

"إن الحكم إلا لله"!

لا يقتصر التبرير الرغائبي على الشعارات المدنية في ظل الدولة الحديثة؛ بل يتعداه إلى الشعارات الدينية المتجذرة في التراث الإسلامي، ومن أبرزها شعار: "إن الحكم إلا لله"، المقتبس من القرآن الكريم في سورة يوسف (الآية 40)، ويفترض بهذا الشعار أن يعبر عن السيادة الإلهية في التشريع، وأن يشكل مرجعية تضبط السلطة بميزان الأخلاق والشريعة، وتقيد القرار السياسي بحدود العدل والحق.

إعلان

غير أن هذا الشعار -ورغم طابعه القرآني- لم يسلم من الاستغلال الأيديولوجي عبر التاريخ، كما فعل الخوارج في عهد الإمام علي -كرم الله وجهه- عقب معركة صفين، فحينما قبل الإمام بالتحكيم، رفضوه رافعين شعار "لا حكم إلا لله"، مكفِّرين به خصومهم، ومبرِّرين تمردهم السياسي، وقد أدرك الإمام هذا التوظيف الخاطئ حين قال كلمته المشهورة: "كلمة حق أريد بها باطل"؛ إذ حولوا مبدأً إلهيًا نقيًا إلى سلاح سياسي لتبرير نزعتهم المتطرفة.

ومن هنا، يظهر كيف يمكن أن يتحول الشعار من مرجعية قيمية إلى أداة تعبئة أيديولوجية، أو وسيلة لشرعنة الاستبداد أو الإقصاء، عندما يُفصل عن سياقه الشرعي والمقاصدي، ويستخدم لأغراض سياسية ضيقة.

إن المعيار الحقيقي في التعامل مع الشعارات الدينية ليس في رفعها نظريًا، بل في الالتزام العملي بمضمونها القيمي، وفي مدى تعبيرها عن العدل والرحمة والتوازن في تطبيق الحكم والتشريع.

ومن هنا، ينبغي التمييز بدقة بين من يستحضر الشعار باعتباره مبدأً ينظم الحكم بقيم الشريعة والعدالة، ومن يوظفه كشعار أيديولوجي يراد به تبرير القمع أو الاستعلاء أو التفريق بين المسلمين أنفسهم.

السلمية أقوى من الرصاص!

هو شعار ذو بعد قيمي صادق، رفعته الشعوب في مواجهة الاستبداد، تعبيرًا عن إيمان حقيقي بقوة الكلمة والإرادة، بعيدًا عن تبرير العنف أو تحريف المبادئ تحت ذريعة "الدفاع عن الحقوق".. إنه شعار يعبر عن أخلاق المقاومة الواعية، ويعلي من قيمة التغيير السلمي، ويجسد وعيًا إنسانيًا راقيًا يرفض الظلم دون أن ينزلق في دوائر العنف.

غير أن تعميم هذا الشعار وإطلاقه في كل سياق دون تمييز قد يفضي إلى نتائج عكسية؛ إذ قد يتحول الانكفاء عن الدفاع إلى ضعف، ويفقد السلم معناه حيث يقابل بالعدوان ولا يرد عليه، فالمبالغة في التمسك بالسلمية قد تؤدي إلى تعطيل فريضة الدفع المشروع، ولهذا جاء المنهج القرآني متوازنًا يقر بالقصاص والرد المشروع، ويضبطه بميزان التقوى والنسبية، كما في قوله تعالى: ﴿فمن ٱعتدىٰ عليكم فٱعتدوا عليه بمثل ما ٱعتدىٰ عليكم ۚ وٱتقوا ٱلله وٱعلموا أن ٱلله مع ٱلمتقين﴾ [البقرة: 194]، وقوله: ﴿فقاتلوا التي تبغي…﴾ [الحجرات: 9]، وقوله: ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والجروح قصاصۚ﴾ [المائدة: 45] في إشارة إلى حسم البغي لا الانجرار للفوضى.

هذا المنهج لا يفارق العدل، بل يزاوجه بالعفو والتسامح عند القدرة، بما يحفظ كرامة الإنسان ومقاصد الشريعة. لكنه في الوقت نفسه لا يشرعن السكوت عن الظلم، ولا يقدس الخضوع له.

المعضلة اليوم أن بعض الأنظمة القمعية تشوه هذا النوع من الشعارات السلمية، وترد عليها بالتنكيل والتشويه تحت لافتات مثل "حماية السلم الأهلي" أو "محاربة التطرف"، وهي في حقيقتها تسعى لإسكات الشعوب وتثبيت السلطوية.

السلمية الحقيقية ليست شعارًا دائمًا، بل هي خيار مرحلي رشيد، يرجح عندما يكون الأصلح، ويراجع عندما يتحول إلى غطاء للضعف أو أداة لقمع الذات، إنها موقف أخلاقي وفكري لا ينفصل عن وعي الواقع وميزان الشرع.

لقد جسدت السياسة النبوية أبهى صور التوازن الدقيق بين التنظير القيمي والتطبيق العملي، حيث حققت المقاصد الإسلامية العليا دون المساس بجوهر القيم الراسخة والثوابت الأصيلة

تجليات المبادئ القيمية في الممارسة السياسية النبوية

تجسد السيرة النبوية أعظم النماذج في الاتساق بين الشعار السياسي والممارسة الواقعية؛ فقد اتسمت القيادة النبوية بالتوازن بين المبادئ والقيم من جهة، وبين المصلحة الشرعية من جهة أخرى.

ففي غزوة بدر، تجلت قيمة الدفاع عن الحق ورد العدوان، إذ خاضها المسلمون لاسترداد الحقوق وحماية حرية المعتقد والنفس، ومع أن المعركة لم تُبنَ على منطق الغزو أو التوسع؛ فقد اتخذ النبي ﷺ فيها قرارات ذات بُعد سياسي واقتصادي إستراتيجي، كتوزيع الغنائم وأسر المشركين، لكنها حافظت على الإطار القيمي، ولم تنفصل عن مقاصد الشريعة.

وفي صلح الحديبية، تجاوز النبي ﷺ الانفعالات الجماهيرية، وسعى إلى السلام كخطوة تكتيكية ضمن خطة إستراتيجية عامة لتحقيق مصلحة "مرحلية"، رغم المعارضة الشديدة من الصحابة. ورغم ما بدا من تنازلات شكلية في بنود الصلح، فإن نتائجه كانت بالغة الأثر في تقوية الدولة وانتشار الدعوة، ولم تتجاوز هذه التنازلات الأصول المبدئية والأخلاقية؛ إنما كانت مبررات منطقية فيها مصالح كبيرة للمشروع الإسلامي.

إعلان

لقد جسدت السياسة النبوية أبهى صور التوازن الدقيق بين التنظير القيمي والتطبيق العملي، حيث حققت المقاصد الإسلامية العليا دون المساس بجوهر القيم الراسخة والثوابت الأصيلة.

بين صدق النخبة وبصيرة الجماهير، وبين فقه الميزان وفقه الميدان، يُستعاد الاتزان في الخطاب السياسي، وتُنزع الشعارات من قبضة التبرير الرغائبي، لتعود أداةً لبناء الوعي لا لتزييفه

الشعارات بين وعي الجماهير ومسؤولية النخب

تبقى الشعارات السياسية أدوات قوية في الاتصال السياسي؛ فهي لا تكتسب قيمتها من بلاغتها أو جاذبيتها الشكلية، بل من مدى التزام السلوك السياسي بمضمونها الأخلاقي والإنساني، وهنا تتجلى مسؤولية النخب في الالتزام الصادق بهذه المبادئ قولًا وفعلًا، وتحصين الخطاب السياسي من الابتذال والتوظيف الدعائي.

وتقع المسؤولية أيضًا على وعي الجماهير التي لا ينبغي أن تنخدع ببريق الشعارات، بل عليها أن تمارس دورها الرقابي بوعي ومسؤولية في مساءلة الفعل السياسي ومدى اتساقه مع الشعارات المرفوعة.

وعندما يتكامل وعي الجماهير مع صدق النخب، تُبنى ثقافة سياسية راشدة تجعل من الإنسان وكرامته محورًا ومرتكزًا، ومن القيم -مثل العدالة والحرية والكرامة- قواعد أصيلة لا أدوات ظرفية.

ولا ينبغي أن يجنح هذا الوعي إلى مثالية مفرطة، بل يحتاج إلى فقه واقعي يوازن بين القيم والمصالح، ويميز بين من يوظف المبادئ لبناء واقع أفضل ومن يستخدمها لتبرير الهيمنة أو قمع المخالف.

وبين صدق النخبة وبصيرة الجماهير، وبين فقه الميزان وفقه الميدان، يُستعاد الاتزان في الخطاب السياسي، وتُنزع الشعارات من قبضة التبرير الرغائبي، لتعود أداةً لبناء الوعي لا لتزييفه، فحين يتحرر الخطاب السياسي من التبرير الرغائبي، ويستنير بالقيم صدقًا لا زيفًا، تصبح الشعارات جسورًا نحو العدالة، وأدوات لتحرير الوعي، لا أقنعة للاستبداد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان