شعار قسم مدونات

في هروبه إلى الأمام.. نتنياهو يشعل حربًا جديدة

من خطاب نتنياهو
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الجزيرة)

فجأة، تلاشى الحديث عن إخفاقات نتنياهو العسكرية والسياسية في حرب غزة التي طالت! غابت الانتقادات، وانتهى الكلام عن الاتهامات الموجهة إليه بارتكابه جرائم حرب، وطُويت التقارير التي تتحدث عن استطلاعات للرأي، تؤكد انخفاض نسب التأييد له في أوساط الإسرائيليين ووصولها إلى الحضيض؛ فالحدث قد وضع حدًا لذلك كله، وصوت المعركة أسكت كل صوت سواها.

بعدما وصل التحالف الحكومي إلى حالة ضعف قصوى، جاءت الضربة التي أطلقها بنيامين نتنياهو لتكون بمثابة "تنفيس" يستعيد فيه صورة القائد القوي، ويُحوّل الصراع الداخلي إلى مواجهة خارجية.

وهذا ما أكدته صحيفة "ميدل إيست آي" في إشارتها إلى أن الإغارة جاءت في لحظة ضعف مزدوج؛ أصاب الداخل الإيراني من جهة، وترك أثره -من جهة أخرى- في الموقف السياسي لنتنياهو، الذي اختار التعزيز بدلًا من الحوار.

في عالم السياسة، تطالعنا أمثلة تاريخية لقادة، يبدو مسلك نتنياهو نوعًا من السير على خطاهم، قادة اتُّهموا بأنهم أشعلوا أو وسّعوا حروبًا خارجية لصرف الأنظار عن أزمات أو استحقاقات سياسية داخلية

هروب إلى الأمام

هكذا يسمونه، وهكذا هو الحال عندما يواجه القائد واقعًا صعبًا وأزمات متلاحقة، تضطره لصرف الأنظار عن حقيقة المشهد الذي يحمل دلائل إدانة تحاصره، واستحقاقات تدفع لوضعه في قفص الاتهام، فيتهرب من ذلك كله بإحداث واقع جديد، وتفجير حدث طارئ قد يفتقر إلى المنطقية والجدوى على الصعيد العام، لكنه يقدم له على المستوى الشخصي خدمة إسعافية، ويمد له حبل إنقاذ من خلال إلهاء الآخرين، وصرفهم عن ملاحقته.

صورة حاضرة تحاكي ماضيًا

في عالم السياسة، تطالعنا أمثلة تاريخية لقادة، يبدو مسلك نتنياهو نوعًا من السير على خطاهم، قادة اتُّهموا بأنهم أشعلوا أو وسّعوا حروبًا خارجية لصرف الأنظار عن أزمات أو استحقاقات سياسية داخلية.

واحد من تلك الأمثلة نجده في مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء المملكة المتحدة بين عامي 1979 و1990، وذلك من خلال إطلاقها حرب الفوكلاند (1982).

كانت تاتشر تواجه أزمات اقتصادية شديدة، ونِسب تأييد متدنية في استطلاعات الرأي، وكانت المعارضة تطالب بانتخابات مبكرة بعد موجة بطالة ضخمة واضطرابات داخلية، ثم كان أن غزت الأرجنتين جزر فوكلاند (التابعة لبريطانيا)، وكان يمكن لبريطانيا أن تسعى لتسوية دبلوماسية، لكن تاتشر قررت الردّ عسكريًا، وأطلقت حربًا لاستعادتها، ونجحت في ذلك. وبالنتيجة، قفزت شعبيتها إلى أعلى مستوياتها، وفازت في الانتخابات عام 1983 بأغلبية ساحقة.

إعلان

أما بيل كلينتون (رئيس أميركي سابق) فقد وجد في قصف السودان وأفغانستان (1998) سبيلًا للهروب من ملاحقة فضيحة "مونيكا لوينسكي" له، فكان أن أمر كلينتون بضرب مصنع في السودان ومعسكرات في أفغانستان؛ بحجة ضرب "القاعدة" بعد تفجير سفارتي أميركا في كينيا وتنزانيا.

وبالوصول إلى تاريخ أقرب، نجد من يضع فلاديمير بوتين في هذه الخانة من خلال غزوه لأوكرانيا (2022)؛ فقد كانت روسيا تعاني من ركود اقتصادي، واحتجاجات متزايدة، وتراجع في شعبية بوتين، وحدث تململ سياسي في الداخل بسبب الفساد، والسجناء السياسيين كـ"نافالني"؛ فجاء غزو بوتين أوكرانيا بالكامل، معلنًا أن الهدف هو "نزع السلاح النازي"، رغم أن التهديد الأوكراني لم يكن مباشرًا.

وكانت النتيجة أن ارتفعت شعبيته مؤقتًا في الداخل الروسي، وفرض سيطرة أكبر على الإعلام والمعارضة.. لكنه واجه لاحقًا عقوبات غير مسبوقة وانهيارًا اقتصاديًا.

نحن لا نملك علم الغيب، ولكننا نقرأ التاريخ، والتاريخ ينبئنا أن الدولة المتغطرسة قد تدمر دولًا أخرى ثم تنتهي.. أما الزعيم المتغطرس، فقد تقوده سياسته إلى أن يدمر دولته ثم ينتهي

تشابه واختلاف

رغم حقيقة وجود سلوكيات سابقة، مشابهة لما سار عليه نتنياهو، فالشبه بين السابق واللاحق -كما يبدو لي- محدود؛ ففي الحالات التي أشرنا إليها كان تأثير القائد محكومًا بدرجة من الانضباط من جهة، والمراقبة من الدولة العميقة من جهة أخرى، كما أن واقع قوة الدولة أعطاها درجة من الحصانة والثبات في التعامل مع تبعات الحدث.

لكن القراءة المتعمقة لواقع دولة الكيان الصهيوني اليوم توحي بأن التصرف الأرعن لنتنياهو قد جاء في وقتٍ، تعاني فيه الدولة والمجتمع درجة فظيعة من الهشاشة، وقراره الأخير بشن الهجوم على إيران قد تبع شهورًا من حربه على غزة، في رده على عملية "طوفان الأقصى" التي استنزفت الكيان الغاصب وأظهرت حقيقة خلله وعواره. ويُضاف إلى ذلك كله أن نتنياهو قد تقدم على أسلافه بأشواط في استهتاره بمعايير الدولة التي لا تنسجم مع اعتباره لشخصه.

لقد بدأ نتنياهو الحرب، والحرب شرارة أشعلها، لكنه لن يضمن أمر إخمادها وفق هواه.. فأي مسار ستقود إليه مغامرات نتنياهو؟ وإلى أين ستنتهي؟

نحن لا نملك علم الغيب، ولكننا نقرأ التاريخ، والتاريخ ينبئنا أن الدولة المتغطرسة قد تدمر دولًا أخرى ثم تنتهي.. أما الزعيم المتغطرس، فقد تقوده سياسته إلى أن يدمر دولته ثم ينتهي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان