الطوفان والشرق الأوسط الجديد

قصف إيراني على تل ابيب
قصف إيراني على تل أبيب (الجزيرة)

استيقظنا صباح يوم الجمعة الفائت على أخبار، تؤكّد أن الشرق الأوسط قد تغيّر تمامًا عما عهدناه لعقود! هذا التغيّر لم يكن لحظة طارئة أو مفاجئة، بل جاء نتيجة موجات متلاحقة انطلقت من الزلزال الذي أحدثه "طوفان الأقصى".

ولا أعرف من أطلق هذا الاسم على عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لكن من المؤكد أن ذلك لم يكن مجرد توصيف إعلامي، بل هو تعبير نابع من بصيرة إستراتيجية؛ فالطوفان لم يكن حدثًا محصورًا بقطاع غزة أو فلسطين، بل كان لحظة مفصلية ستترك آثارًا عميقة في البنية السياسية والجيوسياسية للمنطقة.

من أطلق هذا الاسم أدرك -على الأرجح- أن تداعيات العملية لن تتوقف عند حدود جغرافية، بل ستطول خريطة "سايكس- بيكو" التي باتت على وشك الانهيار، كما ستُحدِث اهتزازًا في البنية الذهنية للعقل الصهيوني، وربما في أسس المشروع الصهيوني ذاته.

ولعل من ينظر بتمعّن في المشهد الراهن، ويقارن ما يجري اليوم بما جرى في نكسة 1967، سيدرك أن لحظات الانكسار أو التحول الكبرى هي التي تعيد تشكيل مسار التاريخ؛ فتلك الهزيمة لم تكن مجرد خسارة ميدانية، بل كانت زلزالًا ثقافيًّا ونفسيًّا للعرب والإسرائيليين على حد سواء، وقد دخلت المنطقة إثرها في مسار لا نزال نعيش ارتداداته حتى اليوم.

طوفان الأقصى يشبه في طبيعته حالة "تسونامي جيوستراتيجي".. يبدأ بموجة صادمة، لكنها ليست سوى بداية لسلسلة ارتدادات أشد وقعًا؛ فالزلزال لا يحدث على السطح، بل في أعماق المحيط حيث تتحرك الصفائح التكتونية، تمامًا كما تتحرك الآن التوازنات الدولية، والتحالفات الإقليمية، وخطابات القوة.

عند النظر إلى حرب يونيو/ حزيران عام 1967، نجد أنها لم تدم سوى ستة أيام، لكنها غيّرت وجه المنطقة لعقود؛ فالعبرة لم تكن في مدة الحرب، بل في آثارها العميقة سياسيًّا وإستراتيجيًّا. واليوم، يُمكن القول إن "طوفان الأقصى" كان بمثابة لحظة زلزالية مشابهة

نحن أمام تحوّل بنيوي لا حدث طارئ، وما نراه اليوم ليس سوى بداية لتغيرات قد تُعيد رسم الجغرافيا السياسية، وخرائط النفوذ، والأهم في كل ما جرى ليس سقوط الأبراج ولا تبدّل موازين القوى، بل التحوّل الذي بدأ يصيب الوعي الجمعي في المنطقة! فكيف نفهم ما حصل؟ وما هي تداعياته على شكل الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة؟

إعلان

عند النظر إلى حرب يونيو/ حزيران عام 1967، نجد أنها لم تدم سوى ستة أيام، لكنها غيّرت وجه المنطقة لعقود؛ فالعبرة لم تكن في مدة الحرب، بل في آثارها العميقة سياسيًّا وإستراتيجيًّا. واليوم، يُمكن القول إن "طوفان الأقصى" كان بمثابة لحظة زلزالية مشابهة، لكن من نوع مختلف.

العملية لم تُصِب إسرائيل عسكريًّا فحسب، بل ضربت العقل الإسرائيلي في عمقه! ويجب أن نُدرك هنا أن الجيل الجديد من الإسرائيليين لم يأتِ مهاجرًا، بل وُلِد ونشأ في هذه الأرض، ما يجعل بنية وعيه أكثر حساسية للأمن وأقل تحمّلًا للهزّات. وهذا ما جعل الصدمة المعنوية التي تلقّاها ذلك العقل تفوق الأثر العسكري الملموس.

أما على الصعيد السياسي، فقد أعادت العملية رسم خطوط الاشتباك في المنطقة، ودفعت بالصراع إلى بُعدٍ أوضح: لم يعد النزاع على فلسطين وحدها، بل بات صراعًا بين مشروعين يسعيان لتسيّد المنطقة، الأول تقوده إيران عبر أذرعها، والثاني تقوده إسرائيل بدعم غربي مباشر.

الرد الإسرائيلي لم يتأخر، فجاءت ضرباته شاملة لأغلب أذرع إيران في المنطقة، وعلى رأسها "حزب الله"، الذي وصفه نتنياهو مرارًا بأنه "محور المحور".. لقد تلقى الحزب ضربات مؤلمة وغير مسبوقة، ولم تتدخل إيران كما كان يُتوقع. هذا التراجع في التفاعل الفوري، لا سيما بعد اغتيال رموز مهمة، كشف خللًا في وحدة الساحات، وأدى إلى تراجع الحضور الإيراني في سوريا، وصولًا إلى تقويض النظام نفسه هناك ثم سقوطه. وبذلك، بدأت أوصال "الهلال الشيعي" بالتفكك، وتحوّلت الجغرافيا التي كانت تُصوَّر كممر موحد إلى جزرٍ منفصلة متباعدة.

بعد ذلك، جاءت الضربة الإسرائيلية المباشرة لإيران، والتي غيّرت ميزان الردع في المنطقة.. وهنا تُطرح الأسئلة الكبرى: أهذا التغيير دائم أم لحظة عابرة؟ أفقدت إيران قدرتها على الرد، أم إنها متمسكة بخطاب "الصبر الإستراتيجي" الذي استنزف مصداقيتها؟.. الحقيقة أن هذا الصمت المربك، وهذا التريّث الطويل، هو ما فتح شهية إسرائيل لمزيد من التجرؤ.

رغم أن إيران فقدت السيطرة على العديد من أوراقها الإقليمية في السنوات الأخيرة، فإنها لا تزال تحتفظ بعدد من الأوراق القوية التي قد تمكّنها من إعادة التوازن -ولو جزئيًّا- في معادلة الصراع

لقد بات واضحًا أن إسرائيل أدركت أن الضرب في عمق النفوذ الإيراني لم يعد يُقابَل برد مباشر، لا من طهران ولا من حلفائها؛ فـ"حزب الله" -الذي لطالما اعتُبر الخط الأول في منظومة الأمن القومي الإيراني، بل "دُرّة التاج" كما يُقال- تلقّى ضربات موجعة دون أن يتغير موقف إيران.. هذا التراخي في الدفاع عن الحلفاء، وغياب الردع، جعل إسرائيل تتصرف وكأن لا أحد يردعها، وهو ما يضع مستقبل الإقليم أمام منعطف خطير.

هذه الضربات التي تعرّض لها حلفاء إيران وأذرعها، جعلت بنيتها الأمنية مكشوفة، وأسقطت ما يُسمى بالجدار الأمني الإستراتيجي. ونتيجة لعدم الرد أو التحرك، انتقلت إسرائيل من مجرد التفكير في ضرب المشروع النووي الإيراني إلى مرحلة التفكير بإسقاط النظام الإيراني نفسه! وهنا يُطرح السؤال: هل تمتلك إيران القدرة على الدفاع عن نفسها في مواجهةٍ لم تعد مقتصرة على إسرائيل فقط، بل قد تشمل تحالفًا غربيًّا واسعًا، وربما بموافقة عربية ضمنية أو مباشرة؟

إن سقوط الهيبة الإيرانية، وانهيار ما يُعرف بـ"الصمت الإستراتيجي" الذي أُسقِط بفعل "الوجع الإستراتيجي" الذي ألحقته إسرائيل، يجعل من غير الممكن لإيران أن تبقى ساكنة، بل قد تجد نفسها مضطرة للتحرك بقوة، وربما الإقدام على إطلاق صواريخها الإستراتيجية باتجاه العمق الإسرائيلي، في محاولة لاستعادة توازن الردع المفقود.

إعلان

رغم أن إيران فقدت السيطرة على العديد من أوراقها الإقليمية في السنوات الأخيرة، فإنها لا تزال تحتفظ بعدد من الأوراق القوية التي قد تمكّنها من إعادة التوازن -ولو جزئيًّا- في معادلة الصراع.

أبرز هذه الأوراق هي قدرتها المستمرة -حتى الآن- على إنتاج القنبلة النووية، رغم الضربات الأمنية المؤلمة التي تعرض لها برنامجها النووي.

أما الورقة الثانية فتتمثل في موقعها الجغرافي الإستراتيجي، وتحديدًا في إشرافها على مضيق هرمز، أحد أهم شرايين الطاقة العالمية، والذي يمنحها قدرة على التأثير المباشر في أسواق النفط والغاز.

أما الورقة الثالثة، فهي ترسانتها الصاروخية المتقدمة، التي لا تزال تشكّل مصدر تهديد فعلي، خاصة لإسرائيل، حيث تمتلك إيران القدرة على توجيه ضربات موجعة في حال اندلاع مواجهة شاملة.

ضرب مراكز القيادة السياسية ليس مجرد ردع مؤقت، بل يُعدّ خطوة تمهيدية أولى في مسار يستهدف إسقاط النظام كليًّا. لذلك، جاء الرد الإيراني عنيفًا، في محاولة لاستعادة هيبة الردع وإيصال رسالة قوية للخصوم

لكن يبقى أن الورقة الأهم -وربما الحاسمة- هي التخلي النهائي عن سياسة "الصبر الإستراتيجي" التي تبنّتها طويلاً، وأن تستبدل بها منطق المواجهة المباشرة. فهذه ليست معركة دبلوماسية، ولا مجال لمساومات السجاد، بل هي حرب وجودية تتطلب حسمًا وردعًا لا انتظارًا ومراوغة.

لعلّ ما جرى فجر الجمعة، وما تزال ارتداداته مستمرة حتى الآن في قصف متبادل، يشير بوضوح إلى أن إيران بدأت تُدرك خطورة ما يجري، وأن الأمر لم يعد يقتصر على استهداف مشروعها النووي، بل بات يستهدف النظام السياسي نفسه، وبنيته القيادية؛ فضرب مراكز القيادة السياسية ليس مجرد ردع مؤقت، بل يُعدّ خطوة تمهيدية أولى في مسار يستهدف إسقاط النظام كليًّا. لذلك، جاء الرد الإيراني عنيفًا، في محاولة لاستعادة هيبة الردع وإيصال رسالة قوية للخصوم.

لكن، وعلى الرغم من عنف الرد، فإنه لم يكن بمستوى الخسائر التي تكبّدتها إيران، لا من حيث الحجم ولا من حيث التأثير. وهو ما يطرح تساؤلاً ملحًّا: هل يكفي هذا الرد؟ الواقع يُشير إلى أن الرد المطلوب يجب أن يكون أقوى وأشد وقعًا بكثير، إذا ما أرادت إيران فعلاً أن تُعيد رسم قواعد الاشتباك، وتمنع خصومها من الاستمرار في سياسة الاستنزاف والإضعاف التدريجي.

من خلال التوحّش العسكري والسياسي الذي مارسته إسرائيل خلال الأشهر الماضية، بات واضحًا أن تفوّقًا إستراتيجيًّا جديدًا قد فُرض على المنطقة.. هذا التفوق لم يكن مجرد تفوق ميداني، بل هو إعلان عن تحوّل في بنية النظام الإقليمي

ما نتائج هذه المواجهة بين "شرطيي المنطقة"؟ وما الأثر الحقيقي الذي سيترتّب على هذا الصراع؟.. كمواطن عربي، أقف أمام هذا المشهد بمشاعر متضاربة.

في جانب من هذه المشاعر، ينتابني حزن عميق حين أُدرك أن نتيجة هذا الصراع قد تصبّ في مصلحة إسرائيل، وتعزز من سطوتها ونفوذها، وتقرّبها خطوة من تحقيق حلم "إسرائيل الكبرى"، لا بالمعنى الجغرافي فقط، بل من حيث السلطة والهيمنة والتحكم بمصير المنطقة. ويزداد هذا الحزن عندما أرى أن الخاسر الأكبر في هذا الصراع هم العرب أنفسهم؛ فهم ليسوا طرفًا فاعلًا فيه، ولا يمتلكون أدوات التأثير الحقيقي، بل يتحوّلون إلى ساحات للنفوذ ومواقع للصراع، دون أن يكون لهم دور في تحديد اتجاهاته أو نتائجه.

من خلال التوحّش العسكري والسياسي الذي مارسته إسرائيل خلال الأشهر الماضية، بات واضحًا أن تفوّقًا إستراتيجيًّا جديدًا قد فُرض على المنطقة.. هذا التفوق لم يكن مجرد تفوق ميداني، بل هو إعلان عن تحوّل في بنية النظام الإقليمي، خصوصًا في ظل تراجع الدور العربي، وانعزال النظام الرسمي العربي عن الملفات الكبرى في الإقليم.

لقد ساهم ضعف كل من سوريا والعراق، وغياب مصر عن دورها التاريخي كقوة إقليمية كبرى، في فتح الطريق أمام هذا التحوّل. وبهذا، نشهد ولادة نظام إقليمي جديد، تُمسك فيه إسرائيل بزمام المبادرة، ويتراجع فيه الدور الإيراني، لكن الأخطر أنه يطول أيضًا الأنظمة العربية التي باتت خارج معادلة القرار، رغم أنها أول من سيتأثر بنتائج هذا الصراع. ومع ذلك، من السابق لأوانه الجزم بنتائج هذه التطورات، إذ لا تزال الأحداث في بداياتها، ولا يمكن بعدُ التكهّن بمآلاتها بدقة.

إعلان

للمقارنة، أدركت أوروبا منذ اللحظة الأولى أن سقوط أوكرانيا يعني فتح البوابة الشرقية أمام التمدد الروسي، فهبّت لمساندتها بكل الوسائل الممكنة، لأن الخسارة هناك تُعدّ هزيمة إستراتيجية تهدد أمن القارة بأكملها. أما في الحالة الفلسطينية، وتحديدًا في ملف غزة، فلم يُنظر إليه من قبل الأنظمة العربية على أنه ملف أمن قومي وإستراتيجي، بل تم اختزاله في اعتباره قضية فلسطينية داخلية. وهذه النظرة الضيقة، هي التي سمحت لإسرائيل بالتمادي، وللنظام الإقليمي الجديد بالتشكل دون مقاومة تُذكر من جانبه العربي.

على النخب السياسية والفكرية أن تعي أنها ليست بمأمن من الحريق الذي يلتهم الإقليم، وأن التفرّج أو الارتهان للقوى الخارجية لن يحمي أحدًا.. لا بد من وعي إستراتيجي جديد يعيد بناء الإرادة السياسية، ويستعيد زمام المبادرة

إن التصادم القائم اليوم بين "شرطيي" المنطقة (إسرائيل وإيران) يعيد إلى الذاكرة مشهدًا مشابهًا في التاريخ، حين احتدم الصراع بين الفرس والروم على أرض هذه المنطقة نفسها. في خضم ذلك النزاع، لم يقف النبي ﷺ موقف المتفرج، بل فكّر بطريقة إستراتيجية تتجاوز اللحظة، فاستثمر ذلك الفراغ والنزاع لبناء دولة مستقلة، متحررة من نفوذ الإمبراطوريتين، تمتلك القدرة على الصمود، وتتهيأ لاستعادة الحق حين تحين اللحظة. وهذا بالضبط ما تحتاج إليه المنطقة اليوم!

على النخب السياسية والفكرية أن تعي أنها ليست بمأمن من الحريق الذي يلتهم الإقليم، وأن التفرّج أو الارتهان للقوى الخارجية لن يحمي أحدًا.. لا بد من وعي إستراتيجي جديد يعيد بناء الإرادة السياسية، ويستعيد زمام المبادرة، ويُخرج القرار العربي من تحت العباءة الأميركية التي لا ترى في الشرق الأوسط إلا مصالح إسرائيل.

إن الخلاص يبدأ من الإدراك بأن المنطقة لن تعود كما كانت، وأن من لا يُبادر اليوم سيُداس غدًا تحت أقدام من يُعيدون رسم خرائط النفوذ، بلا اعتبار لحق ولا لتاريخ.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان