لم يقف الاحتلال في قطاع غزة عند حد القتل والتشريد، ولم يرضَ بأن يجعل الغزّي مجرد رقْم في عداد المفقودين أو المشرّدين، بل شاء أن يسلبه ما هو أعمق من الجسد: أن يستنزف روحه ذاتها، فجرّعه الجوع المغموس بالعذاب المتقدم بخطى وئيدة حتى الرمق الأخير.
وبين قضمة الجوع وغصة الموت المتنقل، توقفت مساعدات "الأونروا" في نحو 400 نقطة توزيع، وسوق لمراكز مساعدات استحدثت نهاية الشهر الماضي، وانحصرت بأربعة فقط تديرها "مؤسسة غزة الإنسانية" المدعومة أميركيًّا وإسرائيليًّا، مع ما تتركه من علامات استفهام حول آلية عملها وأهدافها.
هذا التوحيد للمراكز لم يقصد التخفيف عن الجياع، بل كان توظيفًا للأمن والإخضاع: ممرات ضيقة، أسلاك شائكة، قواعد عسكرية، تدقيق في الهويات، وتصوير يعيق وصول الجائعين، حتى صار الحصول على الغذاء أشد خطرًا من الموت ذاته.
كشف المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف عن سعيه إلى توظيف "مؤسسة غزة الإنسانية" لتجميع معلومات عن الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، تمهيدًا لتوجيه الجيش إلى أماكن وجودهم
القتل قبل الطحين
لم يكن إطلاق النار على طوابير الجائعين حدثًا عابرًا ولا جنونيًّا، بل دقيقًا كما لو كان يدار من عقل بارد. الرشاشات المثبتة على الدبابات أطلقت ما يقارب 15 إلى 16 طلقة في الثانية الواحدة، من بُعد لا يتجاوز 450 مترًا عن مركز المساعدات، أي إن القتل لم يكن وليد اللحظة، بل وليد القرار المسبق.
اللقطات قرب مراكز المساعدات وثقت وجوهًا مذعورة وأجسادًا تتساقط بلا صوت، وطلقات تخترق الجماجم كما تخترق الأكاذيب، وليس في المشهد ما يوحي بـ"تحذير". الرصاص المستخرج من جثامين الشهداء يطابق ذخيرة الدبابات الإسرائيلية.
وفي غضون أسبوع فقط على انطلاقة "مصائد الموت" قتل أكثر من مئة مدني، وجرح ما يقارب الخمسمئة، وكلهم كانوا في صفوف الانتظار، لا في خنادق القتال! الحصيلة لا تفسر إلا بأنها مجزرة مكتملة الأركان.
نوايا استخباراتية
في قلب هذه الآلية المستحدثة ظهرت نية استخباراتية صرفة.. كشف المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف عن سعيه إلى توظيف "مؤسسة غزة الإنسانية" لتجميع معلومات عن الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، تمهيدًا لتوجيه الجيش إلى أماكن وجودهم. وقالها "محامون من أجل فلسطين في سويسرا": "المؤسسة ليست بريئة، معظم عناصرها من الجيش والمخابرات الأميركية".
وتعمل "غزة الإنسانية" جنبًا إلى جنب مع "حلول الوصول الآمن"، وهي شركة أمنية توظف المتقاعدين العسكريين، المتخصصين في "قراءة الوجوه"، وتحليل ردود الأفعال، ورسم خرائط المجتمعات المتعبة. وكل ذلك مقابل 1000 دولار في اليوم، وعقود تبدأ بـ3 أشهر، وقد تستمر ما بقيت غزة "قابلة للرصد".
تحت عباءة توزيع المساعدات، ينبش المخطط التهجيري طريقه نحو رفح جنوبًا، وتهدف السلطات عبر هذه التوزيعات إلى تخطي حدود الجوع وإعادة رسم الخرائط السكانية نحو حدود مصر
تمهيد لانهيار حكم حماس
وبما أن الجوع ما زال السلاح الأكثر فاعلية في قطاع غزة حتى اليوم، فقد استخدم كتفاوض سياسي؛ وسلاح لغرض طي رأس حماس. ويرى الاحتلال أن انسحاب الحركة المسيطرة على القطاع من الإدارة الغذائية يضعف شرعيتها الاجتماعية، ويعطي ذريعة لظهور عصابات ليل نهار تسرق المساعدات من السوق السوداء.
وقد أصبح غياب النظام واضحًا: فقد تقطعت سبل الناس، وسرقت المساعدات في العلن، وانفلت الأمن، بينما تصير غزة لعبة شطرنج تحركها قواعد عسكرية وأجندات سياسية خارجية.
التهجير تكتيك مستتر
تحت عباءة توزيع المساعدات، ينبش المخطط التهجيري طريقه نحو رفح جنوبًا، وتهدف السلطات عبر هذه التوزيعات إلى تخطي حدود الجوع وإعادة رسم الخرائط السكانية نحو حدود مصر. أما ما يوزع من معلبات فاسدة (مصادرة من الأسواق الإسرائيلية وتجاوزت تاريخ صلاحيتها)، فهو الآخر صورة من إشاعة الموت فنيًّا، بعدما خفف على الألسن بلبوس الرحمة ولكنه سرعان ما انقلب ترياقًا.
سياسة التجويع في قطاع غزة إستراتيجية مقصودة وواعية من دولة تدعي الإنسانية، لكنها تتخلى عنها حينما يتعلق الأمر بتل أبيب
الجوع.. فخ مغلف
المجازر موضوع ثابت، والتقارير تقول إن جنودًا أطلقوا النار على جياع قرب "مؤسسة غزة الإنسانية"، ما أدى إلى سقوط شهداء وجرحى أثناء محاولتهم الحصول على طرود غذائية. ونشهد اليوم كيف تحولت طرود الطعام إلى ألغام موقوتة وعنوان أول للارتقاء إلى الموت.
سياسة التجويع في قطاع غزة إستراتيجية مقصودة وواعية من دولة تدعي الإنسانية، لكنها تتخلى عنها حينما يتعلق الأمر بتل أبيب. وقد غدت المساعدات بهذه الطريقة، وفي إطارها الأعمى، فخًا دقيقًا محكومًا بالخرائط الاستخبارية والأمنية، لكنه لا يمحو حقيقة أن نية القضاء على حماس ليست نزهة، ولن تكون نهاية المقاومة الفلسطينية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.