الإسلام في جوهره يتيح تعددية في الفهم والتفسير، وهذه "الديمقراطية التأويلية" هي التي تسمح للجماعات الإسلامية المختلفة بأن تتحرك ضمن النظام السياسي أو تبتعد عنه، أن تعارض أو تهادن، أن تميل إلى الاعتدال أو تتجه نحو التشدد.. كل ذلك دون أن تخرج من المرجعية الإسلامية ذاتها.
سقوط الخلافة ونشوء الجماعات الإسلامية
كان الحكم الإسلامي، تاريخيًّا، نظامًا تهيمن عليه الدولة، حيث كانت الشريعة مؤسسة منظمة، تخضع لسلطة الحاكم وتوجيه العلماء. ومع سقوط الخلافة العثمانية وفرض اتفاقية سايكس- بيكو، أعادت القوى الاستعمارية الأوروبية رسم الحدود، وفرضت دساتير مستوحاة من النموذج الغربي، وقسّمت الأمة الإسلامية.
هذا التفكيك لآليات الحكم الإسلامي أثار صراعًا فكريًّا داخل المجتمعات الإسلامية، وأسفر عن نشوء حركات إسلامية سعت إلى استعادة عناصر من النظام الإسلامي، في محاولة لردم الهوة بين الإسلام -بوصفه دينًا يتضمن شريعة شاملة، وينادي بوحدة المسلمين- وبين مشروع التقسيم الاستعماري، الذي دشّن مرحلة تاريخية مثقلة بالتوترات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.
كل ذلك تزامن مع مرحلة بدأت فيها القوى الأوروبية الاستعمارية تتبنى نماذج تعاون وتكامل فيما بينها، تحت مظلة الأمم المتحدة، وتعمل ككتلة موحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
الادعاء بأن الغرب هو من هندس دخول الحركات الإسلامية إلى السياسة يصب في محاولة ترسيخ صورة نمطية، مفادها أن الإسلام لا يستطيع التكيّف مع مفاهيم الدولة الحديثة، وأن المسلمين يفتقرون إلى أدوات فكرية تمكّنهم من تطوير خطاب سياسي يتفاعل مع الواقع
في العالم الإسلامي، لا تزال مفاهيم الشريعة والحكم الإسلامي تشكّل مشاريع سياسية وخيالات دينية في آنٍ معًا. وكما يوضح عدد من المفكرين، هناك تناقض عميق في صميم الفكر الإسلامي الحديث: إذ تسعى الحركات الإسلامية إلى إعادة إحياء الشريعة داخل النظام ذاته الذي كان قد فككها، أي الدولة القومية الحديثة. وقد ساهم هذا التوتر البنيوي في تشكيل أجيال من التفكير السياسي الإسلامي.
وعلى مدار ما يقارب القرن، قدّمت جماعات مثل الإخوان المسلمين، إلى جانب التيارات السلفية المختلفة، رؤى متنافسة للحكم الإسلامي من خلال النصوص، والنشاط الدعوي، والاجتهادات العقدية. ومن النشاط الدعوي والانخراط السياسي، إلى المقاومة المسلحة، اتبعت الحركات الإسلامية مسارات متباينة، وغالبًا متضادة.
ومع ذلك، لا يزال جانب كبير من هذا المسار الفكري والتاريخي غير مدروس بعمق من منظور دراسات الأديان، بدليل ضعف الأبحاث الخارجية التي تُبرز أنّ تذبذب الجماعات الإسلامية بين الاعتدال والتشدد يرتبط أساسًا بتفسيرات مختلفة ضمن الإسلام نفسه، في مقابل هيمنة الدراسات الغربية التي تدّعي أن نجاح أو فشل إستراتيجية الغرب في إدماج الحركات الإسلامية في السياسة هو العامل المحدد لانخراطها السياسي أو لجوئها إلى العنف.
الذي تغيّر داخل الجماعة الإسلامية ليس المرجعية، بل التأويل، وهذا هو جوهر الموضوع: الإسلام ليس منظومة مغلقة، بل هو دين يحتمل التعدد في الفهم
تكيّف الجماعات الإسلامية مع الدولة المدنية الحديثة
الادعاء بأن الغرب هو من هندس دخول الحركات الإسلامية إلى السياسة يصب في محاولة ترسيخ صورة نمطية، مفادها أن الإسلام لا يستطيع التكيّف مع مفاهيم الدولة الحديثة، وأن المسلمين يفتقرون إلى أدوات فكرية تمكّنهم من تطوير خطاب سياسي يتفاعل مع الواقع.
ويشكل سلوك الجماعة الإسلامية في لبنان، المنبثقة عن فكر الإخوان المسلمين، مثالًا على التذبذب بين الاعتدال والتشدد..
إن قرار الجماعة في مطلع تسعينيات القرن الماضي بالانخراط في العملية السياسية -والذي يُسمى بالاعتدال- استند إلى اجتهادات فقهية داخلية، تُجيز المشاركة في النظام القائم بشرط السعي إلى تغييره تدريجيًّا بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية؛ وبذلك رأت الجماعة أن دخول البرلمان ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتعديل التشريعات الوضعية بما يقترب من روح الشريعة.
التذبذب بين الاعتدال والحزم يأتي نتيجة تأرجح الجماعة بين خطين داخل فكر الجماعات الإسلامية نفسه. وهذا لا يعكس تخبطًا أو غموضًا، بل يعكس طبيعة الفكر الإسلامي نفسه، الذي يتضمن داخله تفسيرات متعددة حول الجهاد، والسياسة، والحكم، والمقاومة.
وما يُرى كتناقض في المسار هو في الحقيقة مرونة في الاجتهاد، وما يسمى فشل أو نجاح الإستراتيجية الغربية في إدماج الحركات الإسلامية، يعتمد على تكيّف الحركات الإسلامية مع الوضع السياسي والأمني، الوطني أو الإقليمي، لكن استنادًا إلى ميلها إلى تفسيرات مختلفة داخل المفهوم الإسلامي نفسه، وهي النقطة الأساسية التي يغفل عنها المفكرون -الغربيون بشكل خاص- لإبعاد التركيز عن أهمية الشورى في الإسلام ووجودها، لكونه يتعارض مع إبراز أهمية الخطط الغربية لإرساء الاستقرار في المنطقة.
مفهوم "وحدة الساحات"، الذي يظهر في خطاب بعض الجماعات اليوم، ليس مستوردًا من الخارج كما يُروَّج له، بل يُشكّل امتدادًا طبيعيًّا لمبدأ "الوحدة الإسلامية" أو "الأممية الإسلامية"، الذي هو جزء من جوهر أيديولوجيا الإسلام
الذي تغيّر داخل الجماعة الإسلامية ليس المرجعية، بل التأويل، وهذا هو جوهر الموضوع: الإسلام ليس منظومة مغلقة، بل هو دين يحتمل التعدد في الفهم. ولهذا تختلف الجماعات الإسلامية في توجهاتها، رغم انتمائها أحيانًا إلى المرجعية الكبرى نفسها، سواء كانت سلفية أو إخوانية.
كما أن مفهوم "وحدة الساحات"، الذي يظهر في خطاب بعض الجماعات اليوم، ليس مستوردًا من الخارج كما يُروَّج له، بل يُشكّل امتدادًا طبيعيًّا لمبدأ "الوحدة الإسلامية" أو "الأممية الإسلامية"، الذي هو جزء من جوهر أيديولوجيا الإسلام، والذي يدعو إلى أن "يتحد المسلمون تحت راية واحدة، وأمة واحدة، وهوية واحدة".
وبالتالي، فإن قراءة تحولات الجماعات الإسلامية المختلفة في نهجها من منظور التأثير الإقليمي أو الضغط الغربي تبقى قراءة اختزالية، تُغفل البُعد التفسيري الداخلي وديناميكية الفكر الإسلامي في تأطير المواقف السياسية ضمن مرجعية دينية، تتجدد دون أن تتناقض مع أصولها.
التعددية سبب لإرباك الناس.. حتى يفهموها
هذا التعدد قد يربك الناس أحيانًا، ويولّد شعورًا بالضياع؛ إذ قد يتساءل المواطن العربي، وهو يرى تذبذب الجماعات الإسلامية بين الاعتدال والتشدد، وبين التحالفات والقطيعة: لماذا لا تستقر هذه الجماعات على موقف واحد؟ ولماذا تبدو وكأنها قابلة للتوظيف من قِبل الأنظمة أو الغرب حسب المصالح؟
الجواب ليس في الخارج، بل في الداخل؛ فالفكر الإسلامي يحتوي على تفسيرات متعددة للجهاد، والولاء والبراء، والعلاقة مع الحاكم والمجتمع، وهي التي تحدد مسارات تلك الجماعات وتحولاتها.. ما يبدو تذبذبًا في أعين الناس، هو في الحقيقة انعكاس لصراع تأويلي داخلي حول النصوص، وطبيعة السياسة، وأخلاقيات العمل العام.
الحقيقة أن الديمقراطية الغربية ليست وحدها القادرة على إنتاج التعدد؛ فالإسلام -عبر مفاهيم مثل الشورى، والاجتهاد، وتنوع القراءة- يملك شكله الخاص من "الديمقراطية"، حتى لو اختلفت أدواتها وأهدافها
الإسلام لا يهرب من السياسة، بل يعيد تأويلها
لكن من المهم أن ندرك أن هذا التنوع ليس علامة ضعف، بل إنه دليل على حيوية الفكر الإسلامي. وبدل أن نراه عامل تشتت، يجب أن نراه برهانًا على أن الإسلام يملك في داخله ما يسمح له بالحركة، والنقاش، والتكيّف.
لو كان الإسلام فعلاً نظامًا جامدًا أو رجعيًّا -كما يدّعي البعض- لما استطاعت الجماعات الإسلامية -على اختلاف مشاربها- أن تجد في داخله ما يبرر مشاركتها في السياسة أو المقاومة أو الدعوة أو الإصلاح.
الحقيقة أن الديمقراطية الغربية ليست وحدها القادرة على إنتاج التعدد؛ فالإسلام -عبر مفاهيم مثل الشورى، والاجتهاد، وتنوع القراءة- يملك شكله الخاص من "الديمقراطية"، حتى لو اختلفت أدواتها وأهدافها.
ولهذا، فإن دخول الجماعات الإسلامية إلى السياسة لم يكن نتيجة "إستراتيجية غربية"، بل نتيجة "مرونة إسلامية".
الغرب، في سعيه لتأكيد فشل الإسلام في مواكبة الدولة الحديثة، يتجاهل هذه الحقيقة عن عمد، لأنها تقوّض السردية التي بُنيت طوال عقود لتصوير الإسلام كعقبة أمام الديمقراطية، لا كشريك فيها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.