قبل عدة أيام، تجمهر الناس في مدينة طرابلس اللبنانية لمنع مسرحية قيل أنها تحمل مضمونًا يتهكّم على الدين.. قبل عامين فقط، كنتُ سأستنكر هذا المنع وأرفع صوتي قائلة: "أين حرية الرأي والتعبير؟"، وربما كنتُ سأكتفي بالصمت اعتراضًا. لكن ما يفاجئني اليوم هو أنني لم أستطع معارضة المنع، بل وجدتُ نفسي لوهلة متفقة معه!
هذا التحوّل الذاتي لم يأتِ دون صراع داخلي، بل جاء نتيجة لتراكم أسئلة حول حدود حرية التعبير، والسياق السياسي الذي تُمارَس فيه، والأيديولوجيات المتصارعة التي تحكم العالم من حولنا.
لم تكن حرية التعبير يومًا جزءًا من التاريخ الحديث للشعوب العربية. أما اليوم، فلم يعد من الممكن قمعها بالكامل، بفعل العولمة والانفتاح والتغيرات المجتمعية المتسارعة.
ومن هذا الباب بالتحديد، بات من الممكن استغلال مفهوم "الحريات" لتمرير تعبيرات تسيء إلى المجتمعات العربية والإسلامية، وتضرها أكثر مما تنفعها، وهي تخدم أجندات مغرضة، لا تأتي من جهة الغرب فحسب، بل أيضًا من الشرق.
حين تُقدَّم هذه الشريعة وكأنها عنف أعمى أو إرهاب، بينما تشجَّع بالمقابل ثقافة الخضوع والتسويات، فإن الحرية هنا تتحول إلى أداة قمع ناعمة، ويصبح هدفها إفراغ الإسلام من أي طاقة سياسية مقاومة
ازدواجية حرية التعبير في زمن التحولات
منذ نشأتها، ارتبطت حرية التعبير في الوعي العربي المعاصر بمواجهة الاستبداد والرقابة.. كانت سلاحًا بيد المهمشين والمضطهدين، وحجر زاوية في أي مشروع نهضوي. لكن ما نعيشه اليوم مختلف: نحن في قلب مرحلة انتقالية، تُستعمل فيها حرية التعبير لا كأداة مقاومة، بل أحيانًا كأداة اختراق ثقافي، يُوظَّف سياسيًّا لإضعاف منظومات فكرية ودينية قائمة، ضمن مشروع أكبر يعيد تشكيل المنطقة.
في السياق العربي، كثير من المبادرات الثقافية والفنية التي ترفع شعار "حرية التعبير" تُدعم من مؤسسات ومنظمات محلية ودولية، بعضها مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بمراكز القوى الغربية. ورغم أن الكثير من هذه المبادرات يتمتع بصدق نوايا ورغبة في التغيير، فإن جزءًا منها -عن وعي أو دون وعي- ينخرط في مشروع أكبر، هدفه النهائي ليس الإصلاح، بل إعادة الهندسة الثقافية والسياسية للمجتمعات، تمهيدًا للقبول بتسويات كبرى، أبرزها التطبيع مع إسرائيل.
حرية مشروطة أم قنبلة موقوتة؟
التحذير هنا لا يعني الانقلاب على حرية التعبير كمبدأ، بل الوعي بسياق استخدامها.. حين تُصبِح الحرية أداة تُستخدم في تقويض المرجعيات الدينية والاجتماعية، وتحديدًا تلك التي تتعارض مع مصالح قوى الهيمنة، فإننا مطالبون بإعادة التفكير.
لنأخذ مثلًا "شريعة القتال" في الإسلام، وهي جزء لا يتجزأ من التصوّر القرآني للعدل والكرامة ومواجهة الظلم، وتُترجَم في واقعنا المعاصر من خلال مقاومة الاحتلال، خصوصًا في فلسطين.. حين تُقدَّم هذه الشريعة وكأنها عنف أعمى أو إرهاب، بينما تشجَّع بالمقابل ثقافة الخضوع والتسويات، فإن الحرية هنا تتحول إلى أداة قمع ناعمة، ويصبح هدفها إفراغ الإسلام من أي طاقة سياسية مقاومة.
الغرب نفسه، الذي يرفع شعارات حرية التعبير، كتب العديد من التقارير المحذِّرة لمجتمعاته مما يُعرف بـ"غسيل الفن"، أو استخدام الثقافة لتلميع صور دول أو سياسات؛ ففي تقرير نشرته الغارديان قبل عام، حذّرت الصحيفة من محاولات بعض الحكومات العربية توظيف الفن لتحسين صورتها دوليًّا. والمفارقة أن هذا التحذير الغربي يؤكد لنا أن للفن قوة تتجاوز الجماليات، وأنه يمكن أن يُستخدم للتأثير على الوعي العام، وإذا كان بإمكانه "تجميل صورة"، فمن المؤكد أيضًا أن بإمكانه "تشويه صورة"، وهنا تكمن الخطورة حين يُستخدم الفن في مجتمعاتنا للنيل من المقدّس وتشويه الدين تحت عباءة حرية التعبير.
شعوبنا العربية اليوم تائهة بين نموذجين، كلاهما يطمح للهيمنة: نموذج غربي يدعو إلى الحرية وينفذ سياسات التبعية، ونموذج شرقي يدّعي الممانعة، لكنه يسحق الهويات باسم الاستقرار
بين من يعلم ومن لا يعلم
من وجهة نظري، ثمّة فئتان تساهمان -كل منهما بطريقتها- في دعم هذه الأجندة داخل المجتمعات العربية بشكل خاص؛ الفئة الأولى هي تلك التي لا تدري، وتتمثل في مجموعات فكرية وفنية ترى أن معركتها الأولى هي مع النظم القمعية والدين التقليدي، فتخوض معاركها دون الانتباه إلى أن جزءًا من خطابها يجري استثماره ضمن مشروع غربي أوسع. هذه الفئة غالبًا ما تتلقى الإشادة والدعم، بل وتُقدَّم كنموذج "تقدمي" في عيون المؤسسات الغربية.
أما الفئة الثانية، فهي التي تدري، وتعمل ضمن مشاريع مباشرة تهدف إلى تغيير البنية الثقافية والسياسية للمجتمعات، بما ينسجم مع السياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. هذه الجهات تعمل على إعادة تعريف الدين كعقبة، والمقاومة كخطر، وتحاول تثبيت قناعة أن "الحداثة" تمر عبر أبواب التطبيع.
الشرق ليس بديلًا
لكن، في المقابل، لا يمكن التسليم بأن قوى الشرق -ممثَّلة اليوم بالصين وروسيا وإيران- تشكّل بديلاً نقيًّا لمشروع الهيمنة الغربية. ففي كتاب "الزلزال الصيني: نهضة دولة متحضّرة" للبروفيسور تشانغ وي وي، تُعرض الصين باعتبارها نموذجًا حضاريًّا جاهزًا لقيادة العالم بعد أفول الغرب.. غير أن الخطاب الذي يقدّمه لا يخلو من عنجهية ثقافية، بل يعكس قناعة راسخة بتفوّق الحضارة الصينية على سائر الحضارات، بما في ذلك الإسلامية.
أما روسيا، فلها سجلّ طويل في قمع المسلمين في القوقاز، ولا سيما في الشيشان. وإيران، بدورها، لم تتردّد في تحويل خطاب "الممانعة" إلى أداة للهيمنة في العراق وسوريا ولبنان، أحيانًا على حساب مجتمعات سنيّة بكاملها.
ما نحتاجه ليس فقط حرية التعبير، بل أيضًا حرية الفهم، وحرية التمييز بين من يعبّر ليحرر، ومن يعبّر ليصادر
الضياع بين النموذجين
شعوبنا العربية اليوم تائهة بين نموذجين، كلاهما يطمح للهيمنة: نموذج غربي يدعو إلى الحرية وينفذ سياسات التبعية، ونموذج شرقي يدّعي الممانعة، لكنه يسحق الهويات باسم الاستقرار.
في خضم هذا، تُسلَب من الشعوب قدرتها على تحديد مصالحها؛ فمرَّة تميل للغرب أملًا في التحرر، ومرة تميل للشرق خوفًا من سطوة الأول. لكن الحقيقة أن وجهتنا ينبغي ألا تُحدَّد استنادًا إلى صراع الآخرين، بل إلى بوصلتنا الخاصة، تلك التي حدّدها لنا القرآن بقوله: {وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شهداء على الناس}.. هذا الوسط ليس حيادًا بين الظالمين، بل بوصلة قيمية تقف ضد الظلم أينما كان، وتُعيد الاعتبار للعدالة والكرامة والحرية بمعناها الأصيل، حرية لا تستغل الناس، ولا تُخرِسهم، ولا تُغرِّبهم عن ذواتهم باسم الفن أو التقدم.
المسرحية التي مُنعت في طرابلس لم تكن مجرد حدث عابر، كانت مرآة لصراع أعمق يجري في قلب المنطقة: صراع على الهوية، والمرجعية، ومفهوم الحرية ذاته. وبدلًا من أن نكتفي بالمواقف العاطفية المؤيدة أو المعارضة، ربما علينا أن نتساءل: ما المشروع الذي تُخدَم من خلاله هذه العروض؟ من يُموّل؟ ولأي غاية؟
الحرية ليست دائمًا حرية، أحيانًا تكون قيدًا في ثوب أنيق، وأحيانًا أخرى يكون المنع تعبيرًا عن وعي، لا عن قمع.. ما نحتاجه ليس فقط حرية التعبير، بل أيضًا حرية الفهم، وحرية التمييز بين من يعبّر ليحرر، ومن يعبّر ليصادر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.