الزمان عام 2000 للميلاد الذي وافق مرور 1420 عامًا على هجرة خاتم النبيين محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام.. كان عامًا لا يُنسى بالنسبة لي، وكيف أنساه وفيه تحقق أملي بأداء فريضة الحج بعد طول اشتياق للبقاع الطاهرة، التي زرتها مرارًا وأنا في المرحلة الابتدائية، بحكم عمل الوالد في السعودية آنذاك؟
وبحكم ولع المصريين بالألقاب، واحترامهم الكبير آنذاك لهذه الفريضة واحتفائهم بمن تمكن من أدائها، فقد كنت أحمل لقب "الحاج" منذ صغري، وكان هذا يضايقني أحيانًا، خصوصًا وقد أصبح لقبًا شبه رسمي لطفل في العقد الأول من عمره.
ومنذ ذلك الوقت، ظللت أحلم بالعودة لأداء الحج وأنا شاب مكلف هذه المرة، وبدأت السعي الجاد بعد أن أكرمني الله بالتخرج والعمل، ثم الزواج والإنجاب.
حاولت جاهدًا في عام 1999 أن أحصل على تأشيرة حج لأداء الركن الخامس للدين، لكن الأمر لم يتيسر، ثم جاء الفرج في العام التالي ووجدت اسمي بين قائمة حجاج الجمعيات الأهلية، وهذا أحد طرق الحج من مصر، وما أصعبها من طرق بالنظر إلى حصة مصر من الحجاج مقارنة بعدد الراغبين والمشتاقين!
النوع الأشهر للحج من مصر آنذاك كان ما يعرف بحج القرعة، حيث يتقدم عدد كبير ربما يقدر بالملايين، ثم تُجري السلطات قرعة تختار منها نحو 35 ألفًا، ينضاف لهم عدد مماثل مما يعرف بحج الجمعيات الأهلية والحج السياحي، ليصل العدد إلى سبعين ألفًا، يمثل حصة مصر آنذاك، حين كان عدد سكانها سبعين مليون نسمة.
كانت الرحلة عبر البحر، وكانت المجموعة تتكون من نحو 300 حاج، معظمهم من الريفيين وكبار السن في محافظة كفر الشيخ الواقعة شمالي مصر، وبدا أن كثيرين منهم حديثو العهد بالسفر، بل ربما كانت العاصمة القاهرة هي أبعد مكان سافر إليه بعضهم قبل هذه الرحلة. كنت أنا من بين الشباب القلائل الذين سافروا في تلك الرحلة، وكان يجمع بيننا -فيما شعرت- الشوق إلى أداء المناسك، والاستعداد لبذل كل الجهد من أجل أدائها على أفضل ما يكون.
أثناء عملية التسكين بالفندق، سمعت أحدهم يهمس لموظف الاستقبال سائلًا عن الغرف التي تطل نوافذها على الحرم كي يستأثر بها المشرفون، فتغاضيت عن الأمر وقلت لعلي لم أسمع جيدًا، لكن ما توالى حدوثه بعد ذلك كان مهولًا
بمجرد أن وصلنا إلى فندقنا في مكة المكرمة -وكان لحسن الحظ أمام الحرم المكي مباشرة، قبل أن تتم إزالته مع المباني المجاورة لاحقًا لإقامة أبراج عملاقة- اكتشفنا أن الرحلة ستكون مليئة بالصعوبات والتعقيدات. فكما ذكرت لكم، الغالبية الساحقة من حجاج هذه المجموعة ممن لم يسبق لهم السفر خارج مصر، ويحتاجون للكثير من المساعدة التي يفترض أن يقدمها مشرفو الرحلة، وهم حسب ما فهمنا أشخاص ذوو خبرة، تم اختيارهم للإشراف على الرحلة مقابل السفر مجانًا، بحيث يكون عملهم الإشرافي بديلًا لآلاف الجنيهات التي كان يُفترض أن يدفعوها.
أثناء عملية التسكين بالفندق، سمعت أحدهم يهمس لموظف الاستقبال سائلًا عن الغرف التي تطل نوافذها على الحرم كي يستأثر بها المشرفون، فتغاضيت عن الأمر وقلت لعلي لم أسمع جيدًا، لكن ما توالى حدوثه بعد ذلك كان مهولًا.
ففي البداية، اكتشفت مع رفاقي سعيد وإبراهيم وعبدالستار أن بعض الحجاج لا يجدون مكانًا للنوم، مع أن مجموعتنا لها 75 غرفة، يسكن بكل منها 4 حجاج، فلماذا إذن توجد عدة غرف بها 5 حجاج أو حاجات؟ الإجابة جاءت صادمة لنا، وهي أن كل مشرف قد اصطحب معه إما زوجته أو أمه واستأثر معها بغرفة واحدة، وهو ما يعني عجزًا يدفع ثمنه حجاج آخرون، وجدوا أنفسهم محشورين كعدد زائد في غرف ضيقة من الأساس.
ولأننا وصلنا قبل بدء المناسك بأيام، فقد كان النشاط الأساسي هو الذهاب إلى الحرم لأداء الصلوات الخمس، لكننا كنا نكتشف عقب كل صلاة أن بعض الحجاج الكهول قد ضلوا طريق العودة إلى الفندق، وعندما نسأل عن المشرفين للمساعدة نجد أنهم مشغولون مع زوجاتهم بالتسوق، أو بالراحة في الغرف الخاصة.
لم أجد مع رفاقي بدًا من مصارحة المشرفين بذلك، وعرضنا عليهم التطوع لمساعدتهم فيما يقصرون فيه من أعمال الإشراف التي جاؤوا أساسًا من أجلها، فتقبلوا الأمر على مضض، ولم يفتهم أن ينبهونا إلى أننا نجادل كثيرًا، وهو أمر لا يجوز في الحج حسب تعاليم الدين.
في اليوم التالي جدَّت مشكلة تتعلق بمرض أحد الحجاج، فذهبت إلى غرفة أحد المشرفين لإخباره، وبعد تلكؤ إذا بزوجته تفتح الباب، وأتفاجأ به يدخن الشيشة، ويدعوني للمشاركة قبل أن يضيف في فخر أنه أحضرها معه من مصر، فهو لا يطيق لها فراقًا.
يومًا بعد يوم تزايدت حالة الغضب لدينا، واضطررنا إلى تلميحات، ظنناها ستكون رادعة للمشرفين، بأنهم جاؤوا مجانًا مقابل عملهم؛ وبالتالي يجب عليهم أداء واجبهم تجاه الحجاج من أجل الإنصاف والعدالة، وكي تكون حجتهم مقبولة، فكان الجواب المتكرر هو نصحنا بأن نتوقف عن الجدال، وتذكيرنا بالآية 197 في سورة البقرة، التي تؤكد صراحة أنه لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.
كان الأمر صعبًا علينا ونحن نرى كل يوم، بل كل ساعة، حاجًّا تائهًا أو حاجةً مريضةً أو أمرًا معطلًا، ولا نجد من يفترض أنهم مشرفو الرحلة، وعندما نعاتبهم يشهرون في وجهنا سيف التحذير من الجدال.. واستمر هذا حتى جاء ذلك اليوم، الذي توفي فيه أحد الحجاج من كبار السن في المجموعة.
في ذلك اليوم، عندما عدت بعد صلاة الظهر في الحرم، وجدت أحد المشرفين الأربعة يتباهى وسط مجموعة من الحجاج في الفندق بأنه وقف مع المشرفين الآخرين على أقدامهم لنحو ساعتين، كي يكملوا الإجراءات الرسمية المتعلقة بدفن الفقيد!
بعد أن ترحمت على الفقيد قلت للمشرفين بأمل: لعل الله أراد خيرًا بهذا الرجل، بحيث تتم صلاة الجنازة عليه أمام الكعبة، وبحضور مئات الآلاف من الحجاج.. وهنا ألقى أحد المشرفين -وكان صاحب منصب مهم في المحافظة- قنبلته البغيضة، وقال في تلعثم: الحقيقة أن الصلاة عليه في الحرم كانت تتطلب إجراءً إضافيًا، وكنا قد تعبنا، فاكتفينا بأن نصلي عليه نحن الأربعة مع بعض الحاضرين في تلك الجهة الرسمية، قبل أن يذهبوا به إلى المقابر!
كلما جاء موسم الحج تذكرت ما جرى في تلك السنة، وصدقوني.. لم أشعر بالأسف على ما قلت، ولا أدري: هل شعر أولئك الأربعة بالأسف على ما فرطوا فيه من حقوق الناس، بل وما ظلموا به أنفسهم؟
لم أتمالك نفسي وثرت ثورة عارمة، وأمسكت بتلابيب الرجل، وسألته وأنا أبكي كالأطفال: هل تقصد أنك حرمت الرجل من أن يصلي عليه مئات الآلاف من الحجاج حول الكعبة، لمجرد توفير نصف ساعة إضافية من الجهد؟
للأمانة، بدا أن الرجل قد شعر بالذنب والندم، لكن زميله المشرف الآخر أسرَّها لي على ما يبدو، وانتحى بي جانبًا بعد برهة من الوقت، وقال لي بصوت خفيض -بعد مقدمة قال فيها إني أعجبته كثيرًا لولا جدالي المتكرر- إني يجب أن أراجع نفسي كي لا أفسد حجتي، وأن أدرك أن الله قد نهى تمامًا على الجدال في الحج.
أخرجني الرجل عن شعوري أو كاد، فوجدت نفسي أقول له: من قال لك إنه لا جدال في الحج؟ فقال: غريب، أنا فهمت أنك تحفظ كثيرًا من القرآن، ألا تعرف هذه الآية؟ فقلت له منفعلًا: بل في الحج جدال، بل في الحج جدال، وربما أكثر من ذلك.. ولما وجدت الرجل بدأ في الحوقلة والاستغفار محاولًا إظهار الأسف على ما أرتكبه أنا من إثم، طلبت منه أن يبتعد من أمام وجهي كي لا أقدم على ما هو أكثر من الجدال.
من يومها، كلما جاء موسم الحج تذكرت ما جرى في تلك السنة، وصدقوني.. لم أشعر بالأسف على ما قلت، ولا أدري: هل شعر أولئك الأربعة بالأسف على ما فرطوا فيه من حقوق الناس، بل وما ظلموا به أنفسهم؟
نسأل الله العفو والعافية..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.