شعار قسم مدونات

صمود حماس: من الطوفان إلى التحرير

عملية تسليم الأسرى في غزة
عملية تسليم الأسرى في غزة (الجزيرة)
  • السياق السياسي والإقليمي لعملية طوفان الأقصى

جاءت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كزلزال إستراتيجي تجاوز حدوده العسكرية الميدانية، ليُعيد تشكيل خريطة الصراع في الشرق الأوسط.

في لحظة كانت إسرائيل تعيش فيها ذروة الثقة بالنفس والتفكك السياسي الداخلي، وفي وقت كانت فيه أنظمة عربية تتسابق نحو تطبيع علاقاتها مع تل أبيب، فجّرت حماس معادلة أمنية استمرت لعقود. البيئة الإقليمية كانت مواتية لرؤية إسرائيل لنفسها كقوة مهيمنة بلا منازع: اتفاقيات أبراهام تترسخ، وضعف عربي رسمي متزايد، وتراجع في مركزية القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية. في المقابل، برز محور مقاومة يتموضع ببطء في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة، ينتظر لحظة تاريخية لتثبيت حضوره.. في تلك اللحظة كان طوفان الأقصى.

صمود حماس منذ لحظة الطوفان وحتى اليوم، رغم القصف الهمجي والحصار والمجازر، يعكس بنية تنظيمية وعقائدية راسخة تتجاوز الحسابات الظرفية

أهمية فهم صمود حماس في معادلة الصراع

لفهم المعادلة المستجدة، لا يكفي قراءة ما جرى بوصفه "هجومًا مفاجئًا" أو "خرقًا أمنيًّا"، بل يجب تتبعه كتحول نوعي في قدرة حماس على الجمع بين التخطيط العسكري، والجهوزية الشعبية، والاستعداد طويل المدى.
صمود حماس منذ لحظة الطوفان وحتى اليوم، رغم القصف الهمجي والحصار والمجازر، يعكس بنية تنظيمية وعقائدية راسخة تتجاوز الحسابات الظرفية. والأهم من ذلك، أن صمود الحركة أجبر الجميع -بمن فيهم الحلفاء والخصوم- على إعادة تقييم موقع غزة في معادلة الردع، وجدوى القوة الإسرائيلية، ومستقبل مشروع المقاومة ككل.

إعلان

التحولات الإستراتيجية لحماس قبل الطوفان

  • البناء العسكري والأنفاق والجهوزية القتالية

لعل أبرز مفاجآت طوفان الأقصى لم تكن فقط في المباغتة، بل في حجم وتعقيد البنية العسكرية التي بنتها حماس على مدى سنوات؛ فقد نجحت الحركة في إنشاء منظومة قتالية تحت الأرض تُعرف بـ"مدينة الأنفاق"، أمّنت لها قدرة على الحركة، والتواصل، والتخزين، رغم الرقابة الجوية الإسرائيلية.. هذا البناء لم يكن عشوائيًّا، بل استند إلى رؤية أمنية عميقة، فهمت طبيعة العدو وآلياته في الرصد والتدمير. كما طورت حماس تكتيكات قتالية جديدة، شملت استخدام الطائرات المسيّرة، والإنزالات البرية، وإدارة ساحات قتال متعددة بالتزامن.

  • الإعداد النفسي والميداني للجبهة الداخلية

الجانب العسكري لا يمكن فصله عن إعداد داخلي محكم للمجتمع الغزي؛ فقد عملت حماس بشكل متدرج على تقوية الجبهة الداخلية نفسيًّا وخدميًّا، ومن خلال شبكات اجتماعية وصحية وتعليمية زرعت داخل المجتمع مفهوم الصبر والتحدي والصمود.. الفرد الغزي لم يكن مجرد متلقٍ للضربات، بل كان شريكًا واعيًا في معركة وجودية، مؤمنًا بأن التضحية قدر، وأن الصمود بحد ذاته مقاومة، وقد بدا ذلك جليًّا في تماسك المجتمع رغم المجازر والقصف والتشريد.

أذهلت عملية طوفان الأقصى الأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية والدولية، ليس فقط بحجم الهجوم، بل بطبيعة الخرق الأمني الذي وقع في قلب أكثر الجبهات تحصينًا عالميًّا

  • التوازن بين العمل السياسي والمقاومة المسلحة

أحد أعمدة صمود حماس هو قدرتها على إدارة توازن دقيق بين العمل السياسي والعمل العسكري. فرغم أنها حركة مقاومة، فإنها تُجيد مخاطبة الداخل والخارج بلغة سياسية مدروسة، وتحافظ على اتصالات مع أطراف متعددة دون التفريط بالثوابت. استثمرت الحركة هذا التوازن في مراكمة أوراق قوة على أكثر من جبهة: تأييد شعبي فلسطيني، ودعم ضمني من محور المقاومة، وشبكة تواصل إعلامي وشعبي مع العالم الإسلامي والعالم الحر.. هذا التكامل بين البندقية والدبلوماسية هو ما يمنح حماس قدرة على الاستمرار لا تملكها فصائل أخرى.

المفاجأة العسكرية: قراءة في تكتيكات الطوفان

  • تحليل الخروقات الأمنية والعسكرية غير المسبوقة

أذهلت عملية طوفان الأقصى الأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية والدولية، ليس فقط بحجم الهجوم، بل بطبيعة الخرق الأمني الذي وقع في قلب أكثر الجبهات تحصينًا عالميًّا؛ إذ نجحت كتائب القسام في تنفيذ اختراق منسق ومحسوب لنظام المراقبة الذكي الإسرائيلي، متجاوزة كاميرات، ومجسات، وأبراج مراقبة، وفرق تدخل سريع، في مشهد أقرب إلى العمليات الخاصة التي تنفذها جيوش نظامية.

إعلان

النجاح في إسكات التحصينات الإلكترونية والعسكرية على حدود غزة خلال دقائق، بشكل عكس مدى الإعداد الاستخباراتي الدقيق، والاختراقات الصامتة التي مهدت للعملية لوجستيًّا قبل التنفيذ، ذلك أعاد فتح نقاش عالمي حول هشاشة "التفوق التكنولوجي" في مواجهة إرادة مقاتلين عقائديين.

  • استخدام أدوات المقاومة غير التقليدية

لأول مرة، ظهر أن المقاومة في غزة لم تعد تعتمد فقط على الصواريخ، فقد استخدمت حماس أدوات جديدة أثبتت فاعليتها: طائرات مسيّرة هجومية، وعمليات تسلل بدراجات نارية، واقتحام تجمعات عسكرية وبلدات حدودية، واقتحام قواعد عسكرية مثل "ناحال عوز" و"رعيم".. كما برز لأول مرة نموذج "المقاتل المتحرك"، الذي يتنقل بمجموعات صغيرة لتحقيق السيطرة الموضعية ثم التراجع، بما يشبه تكتيكات حرب العصابات الحديثة.

هذه الأدوات فاجأت الجيش الإسرائيلي وأربكت قيادته الميدانية، التي لم تكن مستعدة لحرب غير تقليدية بهذا المستوى.

من العوامل المفصلية التي فسّرت صمود حماس صلابة الجبهة الداخلية الغزية، والتي ما انهارت رغم شراسة القصف الإسرائيلي المستمر

  • إدارة المعركة الإعلامية والنفسية منذ الساعات الأولى

من اللحظة الأولى، بدا أن كتائب القسام كانت تخطط للمعركة على جبهتين: ميدانية وإعلامية؛ فالإعلان المصور عن العملية، والبث اللحظي للإنجازات، وتوثيق أسر الجنود، جميعها كانت أدوات لحرب نفسية مدروسة أربكت الجمهور الإسرائيلي، وهزّت ثقته بمؤسساته الأمنية. في المقابل، خاطبت وسائل إعلام المقاومة الداخل الفلسطيني والعربي بلغة نصر وثبات وصمود، ونجحت في التحكم بالمشهد الذهني لساعات وأيام، بينما كانت الحكومة الإسرائيلية في حالة صمت وارتباك إعلامي، وهو ما يُعد سابقة في تاريخ المواجهات بين الطرفين.

الدعم الشعبي والعمق المجتمعي في غزة

  • مدى تماسك الجبهة الداخلية رغم الحصار

من العوامل المفصلية التي فسّرت صمود حماس صلابة الجبهة الداخلية الغزية، والتي ما انهارت رغم شراسة القصف الإسرائيلي المستمر. فقد أظهرت المجتمعات المحلية -رغم نقص الغذاء والدواء وانهيار البنية التحتية- قدرة نادرة على التحمل، بل والاستمرار في دعم المقاومة معنويًّا وميدانيًّا. لم يكن ذلك نتاج صدفة، بل ثمرة إعداد طويل جعل سكان غزة جزءًا من المعركة لا مجرد ضحايا لها؛ فكل بيت أصبح خلية دعم، وكل حي تحول إلى ساحة صمود.. هذه الجبهة الصلبة كانت درعًا خلف المقاتلين وأداة ردع غير مباشرة.

إعلان
  • الشبكات الاجتماعية والخدمية لحماس في خدمة المجتمع

منذ سنوات، طورت حماس شبكات خدمية وصحية واجتماعية داخل القطاع، شملت العون الطبي، والإغاثة، والتعليم، والخدمات الأساسية. هذه الشبكات، التي كانت تُدار بكفاءة وفاعلية حتى في أوقات الحصار، تحوّلت أثناء العدوان إلى خط دعم خلفي لإسناد المجتمع.. فرق الطوارئ، والتوزيع السريع للغذاء والدواء، وتنظيم الملاجئ، واستمرار التعليم الديني، جميعها كانت مؤشرات على بنية تنظيمية موازية تدير الحياة المدنية بكفاءة؛ وهذا يُفسر كيف استطاع المجتمع أن يصمد حتى في أسوأ الكوارث الإنسانية.

الإيمان بأن النصر لا يُقاس فقط بالنتائج المادية، بل بثبات الموقف، منح السكان والمقاتلين معنويات يصعب كسرها! لم يعد الموت هزيمة، بل تحوّل إلى عبور نحو النصر الرمزي والروحي

  • الأبعاد العقائدية والدينية في تعزيز الصمود الشعبي

للبعد العقائدي في غزة دور جوهري لا يمكن تجاهله؛ فالمجتمع الذي تربّى على مفاهيم الرباط، والمقاومة، وفضل الشهادة، أصبح يرى في الصراع مع الاحتلال قدرًا إلهيًّا لا يمكن التخلي عنه. هذه العقيدة ليست سطحية أو شعاراتية، بل رُسّخت عبر مساجد، ومدارس، ومؤسسات تربوية على مدى سنوات.

الإيمان بأن النصر لا يُقاس فقط بالنتائج المادية، بل بثبات الموقف، منح السكان والمقاتلين معنويات يصعب كسرها! لم يعد الموت هزيمة، بل تحوّل إلى عبور نحو النصر الرمزي والروحي، ما جعل الاحتلال يواجه "مجتمعًا مقاومًا" لا مجرد تنظيم.

البعد الإسلامي: العقيدة كوقود للصمود والمواجهة

  • مركزية العقيدة الإسلامية في الخطاب والتكوين الحركي

منذ تأسيسها، لم تكن حركة حماس مجرد تنظيم مقاوم ذي طابع سياسي، بل حركة ذات جذور عقائدية إسلامية عميقة؛ فالعقيدة ليست فقط إطارًا فكريًّا، بل نسيجًا مكونًا للهوية الحركية، وشريانًا يغذي السلوك الفردي والجماعي. خطابها السياسي والعسكري لا ينفصل عن مفردات دينية تؤسس للمشروعية، وتمنح المعركة بُعدًا رساليًّا متجاوزًا للواقع الجغرافي والزمني.

هذه المركزية العقائدية مكّنت حماس من بناء بنية صلبة من الالتزام والانضباط، حيث يتحول الجندي أو الناشط إلى حامل مشروع إيماني، لا مجرد مقاتل يواجه الاحتلال.

  • دور الإيمان بالجنة في تجاوز الخوف والموت

من أبرز ما يميز مقاتلي حماس -خاصة في الكتائب- تعاطيهم الخاص مع فكرة الموت.. فالشهادة ليست نهاية مأساوية، بل ذروة الإيمان والانتصار، والنقلة التي ينتظرها كثيرون كاصطفاء إلهي. هذا الإيمان المتجذر يخلق مقاتلًا لا يُردع بالخسائر ولا يُكسر بالخوف، بل يندفع نحو المواجهة بإرادة حديدية لا تتوفر في الجيوش النظامية.

إعلان

يُشكل هذا العامل ركيزة نفسية خطرة من وجهة نظر العدو، إذ يفقد الردع العسكري أثره حين لا يكون الموت تهديدًا، بل غاية.

  • استحضار البعد التاريخي للصراع

حماس لا تخوض معركتها بوصفها فصيلًا فلسطينيًّا فقط، بل كحلقة في سلسلة تاريخية من المواجهة الممتدة منذ فجر الإسلام. تُقدّم المعركة مع الاحتلال بوصفها استمرارًا لمعركة "الرباط" على أرض الإسراء والمعراج، في قلب القدس وفلسطين، ما يمنح خطابها بُعدًا وجدانيًّا وعقائديًّا ضاربًا في عمق الأمة الإسلامية.

هذا الاستحضار التاريخي يمنح حماس شرعية دينية واسعة، ويُضفي على قتالها قدسية تستنهض الجماهير في العالم الإسلامي.

على مدى سنوات، بنت حماس جيلًا جديدًا من المقاومين، داخل منظومة من المدارس القرآنية والمراكز الدينية، التي لم تقتصر على تعليم النصوص، بل ربطت القرآن بالسلوك المقاوم

  • كيف توظف حماس المفاهيم القرآنية في تعزيز الإرادة الجماعية

تتقن حماس استخدام المفاهيم القرآنية كأدوات للتعبئة النفسية والتنظيمية: مثل مفهوم "الثبات"، و"النصر من عند الله"، و"الابتلاء"، و"الجزاء الأخروي".. هذه المفاهيم تتحول إلى شعارات يومية تُدرّس في مدارس الحركة، وتُردد في إعلامها، وتُستحضر في لحظات الألم والانتصار، لتُشكّل وعيًا جمعيًّا يربط الصبر والدم بالأمل والكرامة.

  • المدارس القرآنية والتعبئة الروحية للأجيال المقاومة

على مدى سنوات، بنت حماس جيلًا جديدًا من المقاومين، داخل منظومة من المدارس القرآنية والمراكز الدينية، التي لم تقتصر على تعليم النصوص، بل ربطت القرآن بالسلوك المقاوم، وأعادت إنتاج نموذج "الطفل المقاوم"، الذي يحمل المصحف في يد، والسلاح في الأخرى.

هذا الاستثمار الطويل في البعد التربوي جعل من المشروع المقاوم مشروعًا مجتمعيًّا شاملًا، يصعب فصله عن الدين، والهوية، والمصير.

حسابات الردع: لماذا فشلت إسرائيل في كسر حماس؟

  • قراءة في إخفاقات الجيش الإسرائيلي استخباراتيًّا وميدانيًّا

رغم التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، والموازنات الضخمة المخصصة للأمن والاستخبارات، فشلت تل أبيب في التنبؤ بـ"طوفان الأقصى"، وهو ما يُعد نكسة استخباراتية غير مسبوقة. منظومة "الشاباك" و"أمان" و"الوحدة 8200″ أخفقت في التقاط إشارات التحضير للعملية، رغم حجم التواصل والمناورات الميدانية التي جرت.

إعلان

لاحقًا، فشلت القوات البرية في تحقيق أهدافها رغم الاجتياح الجزئي، وفوجئت بمستوى التحصين، والمقاومة المنظمة، والخسائر البشرية والمعنوية.

  • تعقيدات البيئة الحضرية في غزة كمسرح عمليات

غزة تمثل كابوسًا عسكريًّا لأي جيش نظامي، فالمساحة الصغيرة، والكثافة السكانية، وشبكة الأنفاق، والعشوائية العمرانية، تجعل من كل حي فخًا محتملًا، ومن كل نفق معركة.

وتتجنب إسرائيل القتال البري العميق في غزة ليس فقط بسبب التكلفة البشرية، بل لأن ميدان القتال غير قابل للضبط التقليدي، والعدو -أي حماس- يتحرك بين المدنيين كجزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع.

كان الإعلام المقاوم من أبرز أدوات حماس في معركة طوفان الأقصى وما بعدها، وقد تحوّل من مجرد وسيلة لتغطية الأحداث إلى سلاح نفسي فعال

  • مرونة حماس التنظيمية في التعامل مع الضربات

من أكبر مفاجآت المعركة أن حماس ما انهارت تنظيميًّا رغم اغتيال القادة، وقصف مراكز القيادة، وضرب البنية التحتية! الحركة أظهرت مرونة عالية في إعادة توزيع القيادة، وإصدار البيانات، وتحريك الخلايا، وكأنها أعدت سيناريوهات مسبقة لأسوأ الحالات. هذا يشي بوجود شبكة قيادة لا مركزية، وبنية مرنة تتجاوز الزعيم الفرد، وتعمل بمنطق المؤسسة التي تُعيد إنتاج نفسها تحت النار، وهو ما يجعل كسرها مهمة شبه مستحيلة بالوسائل التقليدية.

الآلة الإعلامية لحماس: بناء الرواية ومراكمة الرمزية

  • الإعلام المقاوم في خدمة الحرب النفسية

كان الإعلام المقاوم من أبرز أدوات حماس في معركة طوفان الأقصى وما بعدها، وقد تحوّل من مجرد وسيلة لتغطية الأحداث إلى سلاح نفسي فعال. منذ اللحظات الأولى، حرصت الكتائب على بث مشاهد مصورة عالية الجودة لاقتحام المواقع، وأسر الجنود، والمواجهات، ما أحدث صدمة نفسية لدى المجتمع الإسرائيلي، وارتباكًا في قيادته السياسية والعسكرية.

الرسالة لم تكن فقط في الصور، بل في التوقيت والتنظيم والانضباط، إذ نجحت حماس في احتكار اللحظة الإعلامية، وتوجيه الرأي العام داخل فلسطين وخارجها، وفرض روايتها قبل أن تتحرك المنظومات الإعلامية الكبرى.

  • توظيف الرموز الدينية والوطنية في الخطاب

لم تكتفِ حماس بإبراز الإنجاز العسكري، بل ربطته دومًا بخطاب رمزي غني: "الأقصى"، "الرباط"، "الشهيد"، "النصر من الله"، بالإضافة إلى رموز وطنية فلسطينية مثل "العودة"، و"التحرير". هذه الرموز شكّلت جسرًا يربط بين المقاومة والهوية الجماعية للشعب، وبين الحدث اليومي والسردية التاريخية للصراع.

إعلان

بهذا الدمج بين الرمزي والديني، استطاعت الحركة أن تخلق شعورًا بالكرامة والعزة لدى جمهورها، وتحفّز على الصمود والمشاركة، بل وتوسع التأييد الجماهيري عربيًّا وإسلاميًّا.

  • مواجهة الرواية الصهيونية عالميًّا

في زمن التشبيك الرقمي، برعت حماس في خلق رواية مضادة للرواية الصهيونية، من خلال منصات إلكترونية ناطقة بعدة لغات، وتوظيف مؤثرين وناشطين متعاطفين حول العالم. لم تعد إسرائيل الطرف الوحيد القادر على مخاطبة الإعلام الغربي، بل واجهتها حركة تملك أدوات متطورة، وخطابًا منضبطًا، ورسائل مصاغة بعناية تخاطب الضمير العالمي بلغة حقوق الإنسان والعدالة.

هذا التحول مكّن الرواية الفلسطينية من اختراق حواجز الرقابة والتضليل، وتوسيع دوائر التعاطف مع غزة حتى في أوساط كانت تاريخيًّا داعمة لإسرائيل.

من اللافت أن حماس -رغم حجم الدمار، وحالة الطوارئ القصوى- حافظت على جبهة داخلية متماسكة تنظيميًّا، دون انشقاقات أو نزاعات قيادية

التنظيم والانضباط الداخلي للحركة

  • القيادة الموحدة وتوزيع الأدوار الميدانية

رغم كل الضربات، ظلّت حماس تقدم صورة لقيادة موحدة ومنسجمة، تظهر في رسائلها الإعلامية، وتترجم على الأرض في تنسيق العمليات، وضبط الإيقاع السياسي والعسكري. فوجود قيادة سياسية في الخارج، وقيادة عسكرية في الداخل، لم يتحول إلى صراع نفوذ، بل إلى توزيع مرن للوظائف، حيث يقوم الخارج بتحشيد الدعم السياسي والدبلوماسي، ويقود الداخل المعركة ميدانيًّا.

هذا التماسك القيادي عزّز صورة "الجسم الصلب"، وأربك حسابات إسرائيل التي كانت تراهن على شق صفوف الحركة أو إحداث فجوات في بنيتها العليا.

  • تحييد الانقسامات الداخلية رغم الضغط

من اللافت أن حماس -رغم حجم الدمار، وحالة الطوارئ القصوى- حافظت على جبهة داخلية متماسكة تنظيميًّا، دون انشقاقات أو نزاعات قيادية. هذا يعكس بنية مؤسساتية صارمة، قادرة على امتصاص الصدمات، وتوزيع المسؤوليات، وتحقيق أعلى درجات الانضباط الحركي حتى في أصعب الظروف.

في وقت تسقط فيه حكومات بفعل الفوضى، استطاعت حماس أن تدير القطاع كجبهة صامدة رغم الفقد والدمار، ما يعزز الثقة الشعبية ويعمّق شرعيتها الثورية.

إعلان
  • إدارة الأزمات والطوارئ بكفاءة تنظيمية

خلال العدوان، ظهر الوجه الإداري لحماس إلى جانب الوجه المقاوم: إدارة الكهرباء والاتصالات تحت القصف، توزيع الخبز والمياه في ظل الحصار، إنشاء مراكز إيواء، إرسال فرق إسعاف وإنقاذ إلى المناطق المنكوبة.. كلها مؤشرات على امتلاك الحركة لجهاز طوارئ منظم وقادر على الاستجابة السريعة.

هذه الإدارة تعزز ثقة الناس بالحركة لا كجهة مقاتلة فقط، بل كمنظّمة تدير المجتمع في السلم والحرب، ما يضيف إلى رصيدها الرمزي والسياسي، ويجعلها أكثر من مجرد "تنظيم مقاومة".

صمود حماس -في جوهره- ليس مجرد انتصار لمجموعة من المقاتلين داخل جغرافيا محاصرة، بل هو تصدٍّ شامل لمنظومة تفوّق تقني وعسكري وإعلامي مدعوم من الغرب

دروس مستخلصة ومستقبل المقاومة بعد الطوفان

  • هل استطاعت حماس تغيير قواعد الاشتباك؟

من الواضح أن عملية طوفان الأقصى ليست مجرد هجوم عسكري مفاجئ، بل نقطة تحول مفصلية في مسار الصراع. لقد نجحت حماس في كسر هيبة "المناعة الأمنية" الإسرائيلية، وأثبتت أن اليد العليا لم تعد حكرًا على الاحتلال؛ فبعد أن كان الردع قائمًا على فرضية أن إسرائيل قادرة على الحسم السريع، تغيّر المشهد تمامًا.

العملية وضعت قواعد اشتباك جديدة: لم تعد المقاومة تكتفي بالرد، بل باتت تبادر وتهاجم وتفرض معادلاتها، ميدانيًّا ونفسيًّا وإعلاميًّا. والنتيجة: تحوّلت إسرائيل من موقع "الضابط للميدان" إلى "المُطارَد في ميدانه"، وهذا ما سيؤثر على كل جولة مقبلة من الصراع.

  • تأثير صمود حماس على فصائل المقاومة الأخرى

الصمود الأسطوري لحماس خلق حالة من العدوى الثورية في محيطها الفلسطيني والعربي؛ فقد أعاد الثقة إلى فصائل المقاومة الأخرى، خاصة في الضفة الغربية ولبنان، وفتح الباب أمام خطاب وحدوي عملي، لا شعاراتي، مبني على تبادل الأدوار وتكامل الجبهات.

لقد ثبت أن المقاومة ليست محصورة في غزة، وأن ما تم زرعه هناك من بنية وروح يمكن أن يُستنسخ في بيئات أخرى، خاصة مع وجود تنسيق لوجيستي وتكتيكي أوسع مع قوى إقليمية تعتبر نفسها شريكة في مشروع التحرير.

  • السيناريوهات المحتملة في المدى القريب

على المدى القريب، تبدو الساحة أمام عدة سيناريوهات متداخلة:

  1. استمرار الاستنزاف العسكري طويل المدى في غزة، مع سعي الاحتلال لإنهاك البنية التحتية للمقاومة دون قدرة حقيقية على اجتثاثها.
  2. تصعيد متدرج في الضفة الغربية نتيجة اشتعال المزاج الشعبي وتوسع العمل المقاوم المنظم.
  3. احتمالية انخراط جبهات إقليمية -ولو بشكل محدود- في توسيع الاشتباك ضمن إطار "وحدة الساحات"، خصوصًا في الجنوب اللبناني.
  4. إعادة خلط أوراق الحلول السياسية، حيث ستسعى بعض القوى الإقليمية والدولية إلى إنتاج صيغة جديدة، تتجاوز أوسلو، وتُقنن وجود حماس كفاعل لا يمكن تجاوزه.
إعلان

لكن المؤكد أن شكل "الردع الأحادي" الإسرائيلي قد تم كسره، وأن صعود مشروع المقاومة بات حقيقة سياسية يصعب تجاوزها.

لقد أصبح صمود حماس أكثر من حدث سياسي، فهو سردية كاملة لحق شعب في الحرية، تُروى عبر نفق، وصرخة، ومئذنة، وطلقة، وحرف

خاتمة تحليلية

قراءة في المعنى السياسي والعسكري لصمود حماس

صمود حماس -في جوهره- ليس مجرد انتصار لمجموعة من المقاتلين داخل جغرافيا محاصرة، بل هو تصدٍّ شامل لمنظومة تفوّق تقني وعسكري وإعلامي مدعوم من الغرب.

لقد أثبتت غزة -عبر حماس وفصائلها- أن الإرادة المنظّمة والعقيدة الراسخة يمكن أن تنتصر على الجبروت، وأن الاحتلال ليس حتمًا، بل حالة قابلة للزوال.

في السياسة، أثبتت حماس أنها لاعب من طراز إقليمي، له وزن في القرار، وتأثير على المزاج الشعبي العربي، وقدرة على فرض أجندته رغم العزلة والحصار. أما عسكريًّا، فقد أسست لنموذج جديد في حروب الحركات، يتجاوز حرب العصابات إلى "المقاومة المنظمة متعددة الأدوات".

الرسائل الموجهة للإقليم والعالم من تجربة غزة

تجربة غزة بعد طوفان الأقصى أرسلت رسائل متعددة الاتجاهات:

  • للاحتلال: إن زمن الحسم العسكري قد ولى، وإن الأرض لم تعد آمنة.
  • للأنظمة العربية: إن المراهنة على تسويات تتجاوز القضية الفلسطينية أصبحت غير قابلة للحياة.
  • للشعوب: إن النصر ليس مستحيلًا، وإن الكرامة قابلة للاسترداد بالسلاح والوعي.
  • للعالم: إن المقاومة، مهما وصفت بالإرهاب، قادرة على كسب المعركة الأخلاقية والإعلامية، إذا امتلكت الرواية والانضباط والشرعية.

لقد أصبح صمود حماس أكثر من حدث سياسي، فهو سردية كاملة لحق شعب في الحرية، تُروى عبر نفق، وصرخة، ومئذنة، وطلقة، وحرف.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان