شعار قسم مدونات

حلم تحرير العراق ومآلاته (2)

العراقيون يتنافسون في تأمين الخدمات للمتظاهرين بساحة التحرير
الكاتب: أحدثت ثورة تشرين حالة مبدعة للتعايش السلمي بين جميع طوائف وتيارات المجتمع العراقي (الجزيرة)

في الجزء الأول من هذا المقال تركنا سؤالًا كبيرًا برسم قراءة المشهد الداخلي للقوى السياسية العراقية، ومن قبله خريطة التعامل الأميركي مع إيران في العراق، وهو جوهر مشروع القانون الذي عليه بنى ويلسون وبانيتا مشروعهما المقدم للكونغرس الأميركي، فالأصل هو تقليم أظفار إيران وإعادة تموضعها في المساحة التي حددتها السياسة الأميركية منذ الثورة الخمينية.

شهد النهج الأميركي تجاه دور إيران في العراق تحولًا ملحوظًا صعودًا وهبوطًا، عبر مختلف الإدارات الرئاسية منذ غزو العراق عام 2003، سواء من قبل الجمهوريين الذين نفّذوا خطة الغزو، أو الديمقراطيين الذين ورثوا حالة يبنى عليها من ترتيب جغرافيا الخليج العربي وتوازنات القوى فيه، وهو ما عكس -بطبيعة الحال- التغيرات في السياسة الأميركية مع إيران، وقد اتبعت كل إدارة منذ الغزو إستراتيجيات مميزة متأثرة بالديناميكيات الإقليمية، والسياسة الداخلية، وتطور مشهد التهديدات في العراق.

أراد ترامب أن يستعيد الرؤية الجمهورية في التعامل مع إيران وأذرعها في العراق، فانسحب من خطة العمل المشتركة عام 2018، واعتمد حملة ضغط قصوى ضد إيران، شملت عقوبات وتهديدات عسكرية

إدارة بوش -التي غزت العراق- استخفت في البداية بقدرة إيران على التأثير في عراق ما بعد صدام، لا سيما مع حالة الترحاب التي وجدتها واشنطن بغزوها للعراق، وهو ما تمثل في فتوى المرجع العراقي علي السيستاني بعدم جواز مقاومة القوات الأميركية، لكن مع الوقت تنامى تمرد المليشيات الموالية لإيران، في حالة أرادت فيها الأخيرة أن تثبت موقفًا بوضع أذرعها في معادلة العراق الجديد، وكذا تغيير الحالة الديمغرافية التي استقر عليها العراق طوال تاريخه.

إعلان

لذا بدأت إدارة بوش إلقاء اللوم على المليشيات في حالة عدم الاستقرار والحرب الطائفية التي شهدها العراق، ما أدى إلى مواجهات مباشرة. ومع ذلك، ظهرت قنوات اتصال سرية مع إيران في عامي 2007 و2008، لمناقشة الأمن العراقي.

مع انتهاء الولاية الثانية لبوش، ركّزت حملة أوباما الانتخابية على إنهاء حرب العراق، وإعادة توجيه السياسة الخارجيّة الأميركية نحو الدبلوماسية، فسحب قواته المقاتلة من العراق عام 2011، وهو ما فتح الباب أمام أمرين مهمين، الأول ظهور تنظيم الدولة، وبالتبعية -ولملء الفراغ الأمني، ومع صدور فتوى المرجع السيستاني بما عرف بفتوى "الجهاد الكفائي"- رسخت أقدام المليشيات، وساهمت أميركا إلى حد بعيد في تسليح هذه المليشيات وتدريبها.

واكتسبت المليشيات الموالية لإيران شرعية، وأصبحت ورقة ضغط لعبت بها إيران في اتفاقها النووي مع أميركا والغرب، قبل أن يجد أوباما نفسه محشورًا في الزاوية، ما جعله يفتح ملف النفوذ الإيراني في العراق لوضع الخطط لمواجهته، لكن بالمحصلة أدّت سياسات أوباما إلى تنامي النفوذ الإيراني، الذي استغل ظهور تنظيم الدولة في كسب مزيد من النفوذ لأذرعه في العراق.

أراد ترامب أن يستعيد الرؤية الجمهورية في التعامل مع إيران وأذرعها في العراق، فانسحب من خطة العمل المشتركة عام 2018، واعتمد حملة ضغط قصوى ضد إيران، شملت عقوبات وتهديدات عسكرية، توّجها باغتيال قاسم سليماني، مهندس إدارة المليشيات وتدريبها والتخطيط لها في العراق، ومعه قائد مليشيا الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس.

كما أعطى الضوء الأخضر لسلاح الجو الإسرائيلي لشن هجمات على المليشيات العراقية في سوريا ولبنان، وحتى في اليمن، وضغط على الحكومات العراقية لتقليص نفوذ المليشيات، لكنه فوّت فرصة الاستفادة من الحراك الشعبي المنادي بإعادة تشكيل الحياة السياسية العراقية، والرافض للمليشيات الموالية لإيران وأذرعها السياسية.

منذ الغزو، تسيطر الأحزاب الموالية لإيران على المشهد حتى مع وجود خجول للأحزاب السنية، بعد أن قررت هيئة علماء المسلمين في العراق الانسحاب من المشهد برفضها العملية السياسية، وهي القوة التي كانت مؤثرة في النضال ضد الاحتلال

ومع وصول بايدن إلى البيت الأبيض، لم يختلف الأمر كثيرًا عما كان عليه الحال في ولاية الرئيس أوباما.. كثير من المحللين يرون أن فترة بايدن هي الولاية الثالثة لأوباما؛ فازداد نفوذ إيران في العراق، حتى إن بايدن تبنى سياسة الاحتواء فأراد أن يطبع العلاقات الخليجية مع إيران، وهو ما شهده مؤتمر بغداد الذي ضم دول الخليج والعراق وإيران، وحضره الرئيس الفرنسي، وكان ذلك في عهد رئيس الوزراء الكاظمي، لكن هذه السياسة لم تزد طهران إلا مزيدًا من النفوذ، ولم تزد الأميركيين إلا خسارًا.

إعلان

في خضم هذا التطويف، كانت الحياة السياسية في العراق، التي هندستها أميركا بعد الغزو، تذهب بعيدًا عما كان مخططًا لها بإقامة نظام ديمقراطي؛ فالمحصلة أن المحاصصة بين مكون واحد كانت سيدة الموقف، والتهميش كان من نصيب باقي المكونات، وحتى الطوائف الممثلة في المنظومة السياسية، على الرغم من تهميشها لا يجد من يمثلها غضاضة في الحج إلى طهران ليجد لنفسه مكانًا في الحالة السياسية، وإلا كان مصيره الطرد، وإن عارض قد يحيّد.

منذ الغزو، تسيطر الأحزاب الموالية لإيران على المشهد حتى مع وجود خجول للأحزاب السنية، بعد أن قررت هيئة علماء المسلمين في العراق الانسحاب من المشهد برفضها العملية السياسية، وهي القوة التي كانت مؤثرة في النضال ضد الاحتلال، وتكلست عند هذا الموقف، ولم تفهم المعطيات والمستجدات وتتفاعل معها. وبالنتيجة، هيمنت الأحزاب الموالية لإيران حتى يومنا هذا على المشهد والقرار السياسي، بعد أن عطلت سنة التدافع بغياب المكون السني الذي عقدت عليه الطائفة آمالًا.

بالنسبة للعراقيين، هم يحتاجون إلى إعادة النظر في أنفسهم واكتشاف العراق الحقيقي الحاضن لكل التيارات والطوائف والمذاهب، من غير إقصاء ولا تهميش، عراق يقبل الآخر، ولا يرى ترفًا في الاستغناء عن جهد أحد من أبنائه، وهو ما تم تجريفه خلال السنوات العشرين الماضية

أحدثت ثورة "تشرين" حالة مبدعة للتعايش السلمي بين جميع طوائف وتيارات المجتمع العراقي؛ فعلى الرغم من أن انطلاق الثورة وامتداداتها كانت في المحافظات الشيعية، فقد شارك فيها كثير من النشطاء السنة في المحافظات المختلطة وفي بغداد.

مع ذلك لم تكن القوى الثورية على قدر الحدث، إذ افتقرت إلى رؤية إستراتيجية لشكل عراق ما بعد المليشيات، ولم يكن البديل الشبابي مهيأ لتسلّم دولة فسيفسائية كبيرة كالعراق، كما أن المنظومة الحاكمة تحتاج لإعادة نظر، لكون العراق بتنوعه المذهبي والديني سيرفض الحكم الثيوقراطي باللباس المدني، الذي فرضته إيران وارتضته أميركا، وهي معضلة أخرى تحتاج نظرًا.

تكمن المشكلة التي يريد ويلسون وبانيتا حلها في العراق في أميركا، لا في العراقيين ولا في إيران. فبالنسبة لإيران، وجدت منطقة رخوة وإدارة أميركية مترددة في الكثير من الأحيان، ومتخاذلة أكثر، فاستفادت من الحالة للتمدد، وهو التمدد الذي تعدى العراق إلى لبنان وسوريا واليمن على مستوى النفوذ، وإلى أفريقيا وآسيا وأوروبا على مستوى بناء النفوذ.

إعلان

وبالنسبة للعراقيين، هم يحتاجون إلى إعادة النظر في أنفسهم واكتشاف العراق الحقيقي الحاضن لكل التيارات والطوائف والمذاهب، من غير إقصاء ولا تهميش، عراق يقبل الآخر، ولا يرى ترفًا في الاستغناء عن جهد أحد من أبنائه، وهو ما تم تجريفه خلال السنوات العشرين الماضية.

لكنه مع ذلك قادر على إزاحة كل هذه الرواسب، وبناء عراق جديد قوي يكون إضافة لأمته العربية وللإنسانية كما كان، حتى لا تكون مآلات حلم تحرير العراق مغامرة جديدة من الأميركيين، فيدخل العراق في دوامة فوضى جديدة، شعبه والأمتان العربية والإسلامية في غنى عنها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان