شعار قسم مدونات

عودٌ حميد!

تصميم كتاب ديوان المتنبي copy 2
الكاتب: الشعر منذ ولادته إلى اليوم كان بمثابة أداة توثيق وتسجيل، تباين استخدامها حسب كل عصر (الجزيرة)

كان آخر مقال نشرته على "مدونات الجزيرة" عام 2022 بعنوان "حكاية الفلسفة… ما قبل سُقراط"، وأذكر أنني قد عزمت على مشروع تبسيط وتلخيص تاريخ الفلسفة، منذ بزوغ نجمها الأول إلى عصر البنيوية. وقد راسلني البعضُ لاستكمال ذلك المشروع الصغير، ولكن الكسل كان متوغلًا في نفسي تجاه الكتابة!

ولأسباب أُخرى خارجة عن إرادتي، ابتعدت لفترة طويلة عن التدوين، بعد أن كُنت أكتب في شتى الضروب، مثل؛ الفلسفة، السياسة، الأدب والثقافة. والآن أعود، ولكن في ثوب شاعر.
لأسباب أُخرى، انقطعتُ لفترة طويلة عن تدوين الشعر وتفعيلاته، ولكني أحاول اليوم العودة ولو على استحياءٍ.

إذا ما انتقل من حالة الفرد إلى حالة الجمع، دون الأخذ في الاعتبار ما يُعانيه أو يقصده صاحب القصيدة، فهو ليس بشعر، وإنما هو أقرب إلى أن يكون كذبة أو نشيدًا يُتلى لسبب، ثم يموت بزوال السبب!

الشعر منذ ولادته إلى اليوم كان بمثابة أداة توثيق وتسجيل، تباين استخدامها حسب كل عصر؛ ففي مجتمعاتنا العربية كان الشعر وسيلة عرفنا من خلالها عادات العرب قبل الإسلام، هذا إن غضضنا الطرف عن رأي الدكتور طه حُسين، الذي يرى أن كل الأشعار المنقولة عن عصر ما قبل الإسلام هي في أساسها منحولة، وذلك لما تحمله من معانٍ وتسامٍ، ومن لغة الدين الحنيف.

وعلى الجانب الآخر من البحر المتوسط، نجد أن مُثقفي وشعراء أوروبا الشرقية، الواقعين تحت دكتاتورية ستالين بُعيد الحرب العالمية الثانية -مثل "ميلان كونديرا"- كانوا يُعانون من فاشية النظام الشيوعي، الذي يرى أن الشعر والموسيقى وأدوات الأدب قاطبة ليست حِكرًا ولا وليدة فكر صاحبها، فلا يوجد في ذلك النظام الشمولي ما يعني أن يعبّر الشعر عما يدور في خلد صاحبه، بل عما يدور في خلد المجتمع والعقل الجمعي، وفيه تمجيد القائد السوفياتي والثورة.. وبذلك يموت الشعر!

إعلان

إذا ما انتقل من حالة الفرد إلى حالة الجمع، دون الأخذ في الاعتبار ما يُعانيه أو يقصده صاحب القصيدة، فهو ليس بشعر، وإنما هو أقرب إلى أن يكون كذبة أو نشيدًا يُتلى لسبب، ثم يموت بزوال السبب!

وأما عن الغزل، وهذا ما أود طرق بابه، فقد كان دومًا وما زال مرقِّقًا لقلوب الناس، ولا يعاتَب صاحبه إلا إن تجاوز حدود الأدب، وقد تفنن من تفنن في الغزل، وقد تلاه من تلاه بين يدي النبي الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، فهذا كعب بن زهير بن أبي سلمى، وهو شاعر ابن شاعر، وأخٌ لشاعر هو بُجير، وقف بين يدي الرسول ليُنشد بردته الخاصة. وقد اختلف الناس فيها، فمنهم من قال إنها في مدح النبي، ومنهم -مثل تميم البرغوثي- من قال إنها كانت خوفًا واتقاءً من بطش المسلمين به؛ إذ أُحل دمه بعد هجوه للنبي وصحبه.

اليوم لا يسع الهاوي إلا أن يقف أمام الشعر الذي تفننه وعشقه وتُيّم به، فيحاول مُجاراة فُحوله والوقوف على بابهم

والقصيدة من ستين بيتًا، لم يذكر فيها النبي سوى في العشر الأواخر، ويبدأ قصيدته بمطلعها المشهور:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول .. مُتَيَّم إثرها لم يُجزَ مَكبول

وقد سار على نهجه من سار؛ فتلك القصيدة أرست قواعد فن إسلامي شرقي خالص، اسمه البُردة الشريفة، وكُلٌّ يحاول أن يعارض ويجاري سابقه؛ فالبوصيري زاد عليها لتصل إلى 167 بيتًا، ومطلعها الغزل:

أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذي سلم .. مزجتَ دمعًا جرى من مقلةٍ بدم

ومن بعده شوقي فتميم البرغوثي، وكلاهما بطريقته وبيئته أضفى على القصيدة.

واليوم لا يسع الهاوي -مثلي- إلا أن يقف أمام الشعر الذي تفننه وعشقه وتُيّم به، فيحاول مُجاراة فُحوله والوقوف على بابهم. فأذكر أن المُتنبي في أحد أبياته التي يمدح فيها سيف الدولة الحمداني، قال:

متى أَحصيتُ فضلكَ في كلام .. فقد أحصيتُ حبات الرمال

فأردت أن أبني عليها، وأُغيّر فيها، حتى وإن اعتلّ الوزن في مقامٍ وصح في آخر… أحببت أن يكون لي بتلك الأبيات لي عَوْد حميد، وإن سألني أحدهم عن مناسبة تلك الأبيات أقول: وهل للغزل مُناسبة؟ إلا أنني أومن في قرارة نفسي بأن الله هو من يجمع بين الأحبة ويُفرق:

إعلان

متى أحصيتُ حُسنّكِ في كلامي .. فقد أحصيتُ حبّات الرمالِ

رأيتُ النورَ في عينيكِ يبدو .. كأنّ العشقَ مكتوبُ الجمالِ

وفيكِ صفاء قلبٍ لا يُجارى .. وفيكِ النُّطق يزهو بالمقالِ

كأنكِ آيةٌ نزلتْ بلطفٍ .. تُبارك كلَّ معنى واحتمالِ

وأشعارُ العُرب مهما تسامتْ .. تعجز عن وصف عينيكِ الكمالِ

جمعتِ الحُسنَ والأدبَ ارتقاءً .. ودينَ الله في أبهى مثالِ

فلا تحزني لِظنٍّ كان يومًا .. فربّ الناسِ أعلى باحتمال

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان