أكتب هذه الكلمات بقلب مثقل، ليس فقط لأن جنوب السودان انحدر إلى هذا المستوى، بل لأن من أوصلونا إلى هنا هم أنفسهم من اعتلوا ذات يوم أكتاف أحلامنا. كانوا يهتفون بشعارات الحرية، ثم خنقوا الوطن تحت ثقل أحذيتهم.
اليوم، لم تعد جوبا عاصمة لدولة حرة.. إنها سجن شاسع تحكمه أجهزة أمنية مهووسة بالسيطرة، يقودها رأس دولة يرى في الاختلاف خيانة، وفي النقد تهديدًا يجب القضاء عليه.
نحن لا نعيش لحظة سياسية صعبة، بل نحن محاصرون داخل فصل مظلم من رواية رعب كتبها الرئيس سلفا كير بحبر القمع، وعلى صفحات من الخوف، بأقلام تمسكها عائلته.
في جوبا اليوم، الحياد جريمة، ويُقابل النقد بالاختفاء.. هذه العاصمة أصبحت ساحة صيد للاضطهاد السياسي
حكم عائلي يرتدي قناع الجمهورية
لقد انقلبت الطاولة السياسية، ليس فقط على رياك مشار، بل على آخر ما تبقى من أمل في التعددية السياسية. ما يحدث الآن هو إعادة تشكيل الدولة كمؤسسة خاصة لعائلة واحدة، لا تختلف عن شركة يترأسها "الرئيس"، ويشغل منصب نائبه صهره.
يتم التعامل مع البلاد لا كأمة يجب بناؤها، بل كإرث يجب توريثه! وإذا لم يكن صهر الرئيس في دائرة الضوء، فهناك بديل مصنّع لملء الفراغ.
اغتيال المعارضة.. الجميع في دائرة الخطر
في جوبا اليوم، حتى الحياد جريمة، ويُقابل النقد بالاختفاء.. هذه العاصمة أصبحت ساحة صيد للاضطهاد السياسي. لا أحدَ آمنًا.. لا قادة المعارضة، ولا الصحفيون، ولا الحلفاء السابقون للنظام آمنون. كل من لا يهتف للنظام الحاكم يصبح هدفًا مشروعًا للاعتقال، أو الإقامة الجبرية، أو الإقصاء السياسي.
ما يجري ليس فقط قمعًا للمعارضة، بل هندسة مقصودة للفضاء العام للقضاء على الأصوات المستقلة، وتدمير كل أثر للكرامة السياسية. جنوب السودان يشهد انقلابًا صامتًا.. انقلابًا على المعنى، والذاكرة، والتضحيات التي جاءت بعد سنوات من الحرب والألم.
جوبا.. حيث تموت الثورات ويولد الطغيان
أين هو الحلم الذي قاتلنا من أجله؟ أين الوطن الذي مات الآلاف لبنائه؟ أين الديمقراطية التي وقعنا لها بالدم والرصاص؟ لقد تم ذبحها في وضح النهار، داخل القصر الرئاسي، على يد من أقسم أن يحميها.
لا تحدثوني عن اتفاقيات سلام أو "شراكات سياسية".. هذه مجرد أوهام لتجميل مشهد الطغيان. السلام الحقيقي مات يوم حوصر رياك مشار في عاصمته، ويوم أُعلن عن معارضة مزيفة بمرسوم رئاسي، ويوم أصبح النقد السياسي جريمة يعاقب عليها بالاعتقال، لا بالحوار.
نحن نعيش لحظة الانهيار. والسؤال الوحيد المتبقي: هل سنواصل مشاهدة هذا الانحلال بصمت؟ أم نحفر وسط الركام بحثًا عن صدع صغير قد يتسلل منه النور من جديد؟
لا صوت يعلو فوق صوت العائلة
من ناصر إلى جوبا، ومن ياي إلى أويل، يتحدث المواطنون همسًا ويلتفتون خلفهم قبل أن يُبدوا رأيًا سياسيًا. هذا ليس فوضى عشوائية، بل حالة خوف مدروسة، تُدار وكأنها شركة أمنية خاصة: الولاء مطلوب، أما التفكير فلا.
جنوب السودان ليس ملكًا لعائلة واحدة، ولا ممتلكًا جماعيًا لقبيلة، ولا عقارًا يقسم خلف الأبواب المغلقة. لكنه أصبح كذلك بتوقيع وتسليم من الرئيس نفسه، وبتواطؤ صامت من المجتمع الدولي الذي اختار أن يدير ظهره.
حين يصبح اسم الدولة هو "الخيانة"
إذا استمر الصمت، وإذا واصلنا استرضاء الجلاد تحت وهم "التوازن السياسي"، فلن يتبقى من جنوب السودان شيء يُذكر. ما يحدث الآن ليس تفككًا سياسيًا، بل هو خيانة صارخة لفكرة الدولة، وانتهاك لجذور الثورة، وسخرية من دماء الشهداء الذين لم يموتوا كي يرث صهر الرئيس الوطن.
نحن نعيش لحظة الانهيار. والسؤال الوحيد المتبقي: هل سنواصل مشاهدة هذا الانحلال بصمت؟ أم نحفر وسط الركام بحثًا عن صدع صغير قد يتسلل منه النور من جديد؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.