شعار قسم مدونات

الهزيمة المستعصية

دبابات إسرائيلية مدمرة غرب غزة
دبابات لجيش الاحتلال دمرتها المقاومة الفلسطينية بمدينة غزة (مواقع التواصل)

حین یسطر التاریخ دروسه، لا یقرؤھا الجمیع بالطریقة ذاتھا!

في الغرب، أصبحت الھزیمة في الحرب العالمیة الثانیة مدخلًا لصیاغة نظام عالمي جدید، حیث انحنت الیابان أمام القنبلة النوویة، وركعت ألمانیا تحت وطأة الاحتلال؛ فكان الانكسار بدایة إعادة التشكیل.

لكن، في الشرق الأوسط تبدو الھزیمة مفھومًا عصیًّا على الاستیعاب في المنطق الغربي؛ إذ لم یُفضِ الاحتلال إلى استسلام، ولم تُنتج سنوات الصراع قبولًا بالأمر الواقع.

ھناك، حیث یُعاد رسم الخرائط بقوة السلاح، ظن الغرب أن الشرق سیتعلم الدرس نفسه، لكنه فوجئ بأن الھزیمة لیست مجرد حدث عسكري، بل هي مفھوم شدید التعقید؛ تتشابك فیه العقیدة بالتاریخ، والانتماء بالھویة. أفكان الخطأ في قراءة الغرب للشرق، أم إن الشرق كُتب علیه ألا یكون ألمانیا جدیدة ولا یابان أخرى؟

لم یكن للیابان أو ألمانیا ارتباط عقدي بأرض محتلة، ولم یكن ھناك بُعد روحي یجعل الھزیمة أمرًا مستحیل التقبل

ظھرت الیابان عام 1945 في مشھد مروعٍ من الخراب، تلاشت طوكیو تحت ألسنة اللھب، وانصھرت ھیروشیما وناغازاكي في جحیم نووي لم یعرفه العالم من قبل! وقف الإمبراطور ھیروھیتو، الذي كان یُنظر إلیه یومًا كإله، لیعلن بصوت متحشرج عن تخلیه عن ألوھیته، فقد ھُزم الجیش، وانطفأ وھج السیوف، وسقطت البلاد في قبضة المحتل الأميركي.

إعلان

ومن بین الركام تشكلت معادلة جدیدة لم یكن أمام الیابان خیار سوى الرضوخ لھا؛ إذ لم یكن المطلوب إذلالھا بقدر ما كان المطلوب تطویعھا وإعادة تشكیلھا وفق المشروع الغربي.

لم تُترك لھا فرصة للنھوض بشروطھا، بل فُرض علیھا دستور صیغ بأیدٍ أميركیة، جُردت بموجبه من روحھا العسكریة، وتحولت إلى دولة منزوعة المخالب، لا تملك من أمرھا شیئًا في موازین القوة، لكنھا تُحرس بسیف واشنطن النووي.

لم یكن ھناك مجال للمقاومة، بل انخرطت في الدور المرسوم لھا، حیث استبدلت برایاتھا العسكریة خطوط الإنتاج، وسلكت طریق النھضة لا بقرارھا المستقل، بل وفق مخطط أراده المنتصرون، حتى غدت قوة صناعیة كبرى، تصنع ما تحتاجه جیوش الآخرین، بعد أن مُنعت من امتلاك جیشھا.

في ألمانيا لم یُترك لھم حق تقریر مصیرھم، بل فرُضت علیھم محاكمات نورمبرغ لتجتث جذور قیادتھم القدیمة، وأُعید بناء دولتھم على أسس جدیدة لا مكان فیھا للطموحات العسكریة

أما ألمانیا، فكانت قصتھا درسًا آخر في الھزیمة والاستسلام.. سقط الرایخ الثالث تحت وطأة الضربات المتلاحقة، فانقسم الوطن، واحتُلت أراضیه، وھُجّر الملایین من أبنائه، ولم یعد للألمان خیار سوى الخضوع لشروط المنتصرین.

لم یكن أمامھم سبیل للمقاومة أو استعادة مجدھم القدیم، بل وجدوا أنفسھم یُعاد تشكیلھم وفق إرادة القوى التي أحكمت قبضتھا على أوروبا.

لم یُترك لھم حق تقریر مصیرھم، بل فرُضت علیھم محاكمات نورمبرغ لتجتث جذور قیادتھم القدیمة، وأُعید بناء دولتھم على أسس جدیدة لا مكان فیھا للطموحات العسكریة، بل فقط لدور مرسوم بدقة في المنظومة الغربیة، تحت مظلة خطة مارشال، ولم یكن الإعمار خیارًا وطنیًّا، بل مشروطًا بالاندماج في النظام الذي صنعه الحلفاء، فتحولت ألمانیا من أمة مقاتلة إلى أمة عاملة، ومن قوة تبحث عن السیادة إلى اقتصاد یخدم توازن القوى في أوروبا… مُنحت فرصة للنھوض، لكن وفق قواعد لم تكن من صنعھا، بل من تخطیط من أسقطھا.

التساؤل الأبدي المطروح في الغرب: لماذا لم یتحقق ذلك في الشرق؟.. وعندما یطرح الغرب تساؤله عن الشرق الأوسط، فھو لا یسأل سؤال العارف، بل سؤال الحیران، وأحیانًا السؤال الاستنكاري: لماذا لم تستوعب ھذه الشعوب درس الیابان وألمانیا؟ لماذا لم تستسلم لما یراه الغرب "قدَرًا لا یُردّ"؟.. تتنوع الإجابات في الفكر الغربي، لكنھا تدور حول محور واحد: "تفسیر رفض الشرق لفكرة الاستسلام".

إعلان

فریقٌ یُرجع الأمر إلى عوامل نفسیة جماعیة، فیزعم أن ھذه الشعوب لم تتجاوز ماضیھا، وأنھا لا تزال تعیش في ظلال أمجادھا القدیمة، غیر قادرة على إدراك أن منطق العصر قد تغیّر، وأن زمن الحروب المقدسة والغزو قد ولّى.

الحقیقة أن الغرب حین أعاد بناء الیابان وألمانیا لم یُعاملھما كمستعمرات، بل كحلفاء مستقبلیین، كأدوات في صراعه مع الاتحاد السوفیاتي

ووفق ھذا الرأي، لا یزال الشرق في مرحلة الطفولة التاریخیة، یحتاج إلى صدمة تُجبره على إعادة تعریف ذاته، كما حدث مع الیابانیین بعد ناغازاكي، ومع برلین بعد اجتیاح الحلفاء.

لكنّ رأیًا آخر -أكثر قسوة- یُشیر إلى أن ھذه الشعوب لم تُھزم بما یكفي، لم تحترق عواصمھا بالكامل، لم تُسحق إرادتھا حتى الرمق الأخیر، فلم یأتِ ذلك الاستسلام التام الذي یُمھّد للنھضة كما حدث في الشرق الأقصى وأوروبا، وھذا الرأي ھو ما عبّر عنه المؤرخ الإسرائیلي بني موریس، حین ألقى باللائمة على دیفید بن غوریون الذي قاد عملیة تطھیر عرقي في 1948 ولم یُكملھا، إذ یرى أن "عدم الحسم" ھو ما جعل النزاع یستمر حتى الیوم.

لكن، ھل ھذه المقارنة عادلة؟ ھل تشابھت الظروف حتى تتشابه النتائج؟

الحقیقة أن الغرب حین أعاد بناء الیابان وألمانیا لم یُعاملھما كمستعمرات، بل كحلفاء مستقبلیین، كأدوات في صراعه مع الاتحاد السوفیاتي… أما الشرق الأوسط، فلم یُمنح ھذا الامتیاز، بل ظل حبیس لعبة القوى، یتأرجح بین الاستعمار القدیم والتبعیة الحدیثة. ثم ھناك العامل الذي یغفله كثیرون… الدین!

لم یكن للیابان أو ألمانیا ارتباط عقدي بأرض محتلة، لم یكن ھناك بُعد روحي یجعل الھزیمة أمرًا مستحیل التقبل. أما في الشرق الأوسط، فحتى من لا یھتمون بالسیاسة لا یستطیعون أن یمحوا من وعیھم تلك المعادلة الرقمیة البسیطة: ھناك 7 ملایین یھودي في إسرائیل، وھناك ملیار ونصف المليار مسلم في العالم، وھذه لیست مجرد حسبة وھمیة، بل هي رقم یستعصي على النسیان، ویجعل من مفھوم "التسلیم بالأمر الواقع" فكرة صعبة الھضم. ولعل ھذا هو ما لم یُدركه دعاة "السلام الأبراھامي"، الذین ظنوا أن المسألة مسألة اتفاقیات ومعاھدات، في حین أن جذورھا تضرب في عمق الوجدان الجمعي للأمة.

إعلان

وھكذا، یبقى التساؤل مطروحًا: أھو درسٌ لم یُفھم، أم لعبة لم یُسمح لھا بأن تنتھي، أم إن الشرق الأوسط -ببساطة- لم یُعطَ الفرصة ذاتھا، بل زُجّ به في دوامة صراعات لا یُراد لھا أن تنتھي؟

إنھا لیست مسألة فھم أو عدم فھم، بل مسألة مسار لم یُترك لأبنائه كي یرسموه، بل صُمّم بحیث یبقیھم حیث ھم: في منتصف الطریق بین الھزیمة والنصر، بین التاریخ والمستقبل، بین ما كان وما یُراد له أن یكون.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان