شعار قسم مدونات

لماذا نستبدل بالكرامة الاستقرار؟ قراءة في "نعمة الأمان"

يساهم الخوف من الفوضى في تبرير قبول الأوضاع القائمة (غيتي إيميجز)

في العديد من بلداننا العربية، كثيرًا ما يُستخدم تعبير "أنا آكل وأشرب وأرقد بأمان"، كرد تلقائي عند نقد الأوضاع! لكن، وراء هذه العبارة البسيطة تكمن منظومة معقدة، تجمع بين آليات نفسية واجتماعية وسياسية، تُبرر قبول المواطنين لحالة من الاستقرار المادي على حساب حقوقهم وكرامتهم.

عندما تفشل الأنظمة في تقديم إصلاحات جذرية أو حوار ديمقراطي، يتحول التركيز إلى ما يمكن اعتباره "شرعية الإنجاز"

العقد الاستبدادي: الخبز مقابل الصمت

تُبنى بعض الأنظمة على عقد غير مكتوب بين الدولة والمواطن، أو ما يعرف بـ"نظرية العقد الاجتماعي"، حيث يُقدَّم أمان محدود وخدمات أساسية، مثل دعم السلع والطاقة أو تأمين الحياة اليومية، بينما يُطلب من المواطنين الالتزام بصمت سياسي، وعدم المطالبة بالحقوق الشاملة.

في بعض الأنظمة ذات النماذج الاستبدادية، يُستغل هذا العقد لتقديم رفاهية مادية أو أمنيّة محدودة، مقابل تقييد الحريات العامة (خاصة السياسية منها)، ما يجعل الشعور بالاستقرار الظاهري سببًا لتجنب المطالب الثورية.

شرعية الإنجاز: البقاء على قيد الحياة وإنجازات التوازن

عندما تفشل الأنظمة في تقديم إصلاحات جذرية أو حوار ديمقراطي، يتحول التركيز إلى ما يمكن اعتباره "شرعية الإنجاز". يُبرر البعض الأوضاع عبر تقديم الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، كأن يكون توفير الطعام والمأوى إنجازًا كافيًا، حتى وإن تراجعت المؤشرات التنموية بشكل ملحوظ.

إعلان

بهذا الأسلوب، يُعاد تأطير الأزمات كمحاولة لحماية المواطن من سيناريوهات أسوأ، ما يعزز قبول الشعور بالأمان رغم الإخفاقات في مجالات أخرى.

الهيمنة الثقافية: صناعة وعي جماعي مُسيّس

هنا تؤدي مؤسسات الإعلام والتعليم والخطاب الديني دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الجماعي. عبر برمجة خطابات تُعلي من قيمة الاستقرار والأمن، وتحذر من مخاطر الحرية المطلقة، يتم ترسيخ فكرة أن الحرية قد تؤدي إلى الفوضى.

تُستغل هذه السرديات لإبراز صورة أن النظام الذي يوفر بعض الحاجات الأساسية هو الخيار الأفضل، مقارنةً ببدائل قد تحمل وعودًا فارغة أو فوضى محتملة، ما يجعل المواطن يقارن وضعه بأسوأ السيناريوهات في دول أخرى.

إن استقرار الدول لن يتحقق حقًّا طالما استمرت معادلة "الخبز مقابل الكرامة". فما يُعرض من أمان يومي -وإن كان يساعد على تهدئة المطالب المؤقتة- يجب ألا يصبح وسيلة لإسكات الأصوات التي تنادي بمستقبل يتجاوز مجرد البقاء

الخوف من الفوضى: إستراتيجية بقاء

يساهم الخوف من الفوضى في تبرير قبول الأوضاع القائمة، حيث يتم تضخيم سيناريوهات الفوضى البديلة لتأكيد أن البديل سيكون أسوأ. يُستخدم هذا الخوف كأداة إستراتيجية؛ إذ يُذكّر المواطن بعواقب الاحتجاجات والمطالب الثورية، ما يجعله يشعر أن الثمن الذي يدفعه مقابل الاستقرار والعيش الكريم هو الأقل مقارنةً بالبديل الفوضوي. هذا الشعور يعزز من قرار كثيرين بالتسامح مع الوضع الراهن حفاظًا على استقرار حياتهم اليومية.

الرضا الدفاعي: "الأمان كنعمة" كآلية بقاء نفسي

على المستوى النفسي، يلجأ الفرد إلى آلية الرضا الدفاعي أو الرضا الزائف؛ للتعايش مع فجوة الواقع المعيشي بين تطلعاته والواقع المُرّ. يجد المواطن نفسه يقارن حاله بما هو أسوأ في أماكن أخرى، فيؤمن بأن الامتنان للأمان أو لبعض الحقوق -حتى وإن كانت محدودة- هو نوع من التكيف مع الواقع المرير. بهذه الطريقة، يصبح الإقرار بوجود الأمن (العسكري والسياسي) قاعدة يستند إليها لتبرير السكوت، والامتناع عن المطالبة بتغييرات جذرية.

إن بناء أمة حقيقية يستدعي إعادة تعريف الأمان، ليس فقط كأمن مطلق يقدمه النظام، بل كأمن المواطنين في حقوقهم، وعدالتهم، وحريتهم في تقرير مصيرهم

نحو عقد اجتماعي جديد

إن استقرار الدول لن يتحقق حقًّا طالما استمرت معادلة "الخبز مقابل الكرامة". فما يُعرض من أمان يومي -وإن كان يساعد على تهدئة المطالب المؤقتة- يجب ألا يصبح وسيلة لإسكات الأصوات التي تنادي بمستقبل يتجاوز مجرد البقاء.

إعلان

إن بناء أمة حقيقية يستدعي إعادة تعريف الأمان، ليس فقط كأمن مطلق يقدمه النظام، بل كأمن المواطنين في حقوقهم، وعدالتهم، وحريتهم في تقرير مصيرهم.

ولعل الطريق نحو ذلك يكمن في عقد اجتماعي جديد يضمن للمواطنين حقوقهم، وخطاب إعلامي وديني بديل، يُفضي إلى كسر دائرة الاستبداد والسكوت.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان