في مجتمعات كثيرة، أصبح الإنسان يُخيَّر بين خبزه وكرامته، بين أمنه وصوته، بين أن يعيش جسدًا آمنًا أو روحًا حرة. وتلك -في حقيقتها- ليست خيارات، بل أدوات إخضاع ممنهجة تُفرّغ مفهوم المواطنة من جوهره، وتحيل الفرد إلى رقم خانع في دولة تُقدّس الصمت وتخشى السؤال.
الحرية ليست خطرًا على استقرار الدول، بل ضمانته، وليست عبئًا على المجتمعات، بل محرّكها الأول نحو الإبداع والتقدم والعدالة
حين يُستبدل بالحرية الخبز يصبح الخبز مُرًّا، وحين يُقدَّم "الأمن" كغطاء لقمع الحريات، يفقد الأمن معناه. فما جدوى أن يأكل الإنسان في صمت، أو يسير آمنًا تحت سقف لا يقدر أن يرفع فيه رأسه أو يُعبّر عن فكره؟
الحرية ليست خطرًا على استقرار الدول، بل ضمانته، وليست عبئًا على المجتمعات، بل محرّكها الأول نحو الإبداع والتقدم والعدالة.
إن كل قيمة سامية -من العدالة والكرامة، إلى الانتماء الحقيقي- تنبثق من تربة الحرية. وإن غابت، تحوّلت تلك القيم إلى عبارات جوفاء، تُستعرض في المناسبات وتُدهس في الواقع.
الظلم لا يكون فقط في سلب الحقوق، بل أيضًا في خنق الإمكانات، وفي تهميش العقول، وفي صناعة بيئة تُعاقِب الفكر الحر وتُكافِئ الطاعة العمياء. المجتمعات التي تُبنى على القهر تظل هشّة مهما بلغت من تقدم مادي؛ لأنها لا تمتلك قلوب مواطنيها، ولا عقولهم.
كل سلطة تحارب الحرية إنما تفعل ذلك لأنها تخشى المحاسبة، لا لأنها تحمي الوطن، وكل نظام يخشى من الكلمة، يخشى الحقيقة
الحرية لا تعني الفوضى كما يروج بعض الخطاب الرسمي، بل تعني أن يكون الإنسان مسؤولًا، مشاركًا، شريكًا في القرار، قادرًا على التعبير وعلى النقد، دون أن يُخوَّن أو يُقصى أو يُعاقب.
كل سلطة تحارب الحرية إنما تفعل ذلك لأنها تخشى المحاسبة، لا لأنها تحمي الوطن، وكل نظام يخشى من الكلمة، يخشى الحقيقة. أما الأوطان التي تحتضن الحرية، فهي وحدها التي تُنتج مواطنًا قادرًا على الإبداع، وعلى الانتماء الحقيقي، لا الانتماء المفروض.
الحرية ليست منحة من سلطة، بل هي حق يولد مع الإنسان.. تُصان بالدساتير، وتُعزّز بالقوانين، وتُمارس بالوعي. وهي ليست شعارًا يُرفع عند الحاجة، بل ممارسة يومية تؤسس للعدالة وتُمهّد للإصلاح.
إن الخبز يُقيم الجسد، لكن الحرية تُقيم الروح.. وبالروح وحدها تُبنى الحضارات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.