شعار قسم مدونات

درس من التاريخ: إرث فارس الخوري يذكّرنا بسوريا الواحدة

فارس الخوري
فارس الخوري (مواقع التواصل الاجتماعي)

كان موقفًا لافتًا أن يعتلي منبر الجامع الأموي بدمشق رجل مسيحي ليتوجه منه إلى الناس بالخطاب؛ لكن الموقف كان له ما يستدعيه، وبان ذلك في الكلمات التي قيلت إذ ذاك، وفيها: "إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري، وكمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله".

كانت كلمات حملت أكثر من رسالة، ففيها رسالة لكل من جمعهم آنذاك الانتماء إلى الوطن، وفيها رسالة لغريب أتى من وراء البحر حاملًا شعارات زائفة عنوانها "حماية الأقليات"، يريد بها إخفاء غاياته الخبيثة.. وكذلك، كانت في الكلمات رسالة للأجيال القادمة كي تحذر الوقوع في هذه المكيدة.

عرف السوريون في فارس الخوري خلال فترة الانتداب الفرنسي على سوريا مناضلًا وطنيًا يسعى بهمة لتنال بلاده استقلالها؛ وقد تعاون مع صديقه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر على تأسيس أول حزب سياسي خلال حكم الانتداب

كان ذلك فارس بك الخوري، العالم والزعيم الوطني السوري، أحد الآباء المؤسسين للجمهورية السورية، وواحدًا من قادة الكتلة الوطنية التي حاربت الانتداب الفرنسي. وكان للكلمات التي ألقاها حينها وقعها وأثرها على المصلين، الذين حملوه على الأكتاف في مظاهرةٍ طافت أحياء العاصمة السورية، وشارك فيها المسيحيون وهم يهتفون: "لا إله إلا الله".

والحقيقة أن ذلك الموقف من هذه القامة الوطنية لم يكن مفاجئًا، إذ كان امتدادًا لما أظهره الخوري في موقف سابق، معلنًا أن البلاد لأهلها، وأن المحتلين زائلون.

إعلان

كان ذلك حينما دخل المندوب السامي الفرنسي هنري غورو مدينة دمشق محتلًا، وأقام حفل تعارف للمسؤولين السوريين، حضره الخوري ورفاقه في الحكومة التي كانت قد أُنشئت بعد خروج العثمانيين وتنصيب فيصل ملكًا على سوريا.

أقيم الحفل في قصر الملك الأسبق، المُطلّ على العاصمة السورية من منطقة المهاجرين، وامتدح غورو منظر دمشق، ثم نظر إلى القاعة، وتحدث مع الوزراء بطريقة استفزازية قائلًا: "أهذا هو القصر الذي كان يسكنه الملك فيصل؟ صمت الجميع، فأجابه الخوري: "نعم يا صاحب الفخامة، هذا هو القصر الذي سكنه الملك فيصل، وقد بناه والٍ عثماني اسمه ناظم باشا، ثم حل فيه جمال باشا، ثم الجنرال اللنبي، ثم فيصل، والآن تحلونه فخامتكم. وجميع الذين ذكرتهم أكلنا معهم في نفس هذه القاعة ولكنهم رحلوا.. وبقي القصر وبقينا نحن".

لم يكن ذلك التاريخ بداية الحكاية، ولم يكن ختامها؛ فقد سبقته للرجل مواقف، وتبعته أخرى، وكلها تشهد له على صدق وطنيته ووفائه للوطن وأبنائه.. ولأن جزاء الإحسان لا يكون إحسانًا، فقد حفظ السوريون لهذا الزعيم ما كان، وما زال له في ذاكرتهم، المكانة والتقدير، وقد مضى على رحيله عن دنيانا أكثر من نصف قرن من الزمان. أما في حياته، فقد رضي به أبناء البلاد أمينًا على إدارة شؤونهم في مواقع ومناصب شتى.

عشية انسحاب الجيش العثماني يوم 26 سبتمبر/ أيلول 1918، اختير فارس الخوري ليكون ضمن مجلس حكم انتقالي شُكِّل بدمشق بقيادة الأمير محمد سعيد الجزائري، حفيد المجاهد الأمير عبدالقادر الجزائري. حافظ هذا المجلس المصغر على سلامة المدينة في الفترة الفاصلة بين خروج العثمانيين ودخول قوات الشريف حسين بن علي، يوم 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1918.

في مراحل لاحقة تولى فارس الخوري مناصب وزارية عديدة، ووصل إلى رئاسة البرلمان السوري، ثم رئاسة الوزراء في الثلاثينيات والأربعينيات، ليعود رئيسًا للحكومة في عهد الاستقلال سنة 1954. وهو مؤسس وزارة المالية السورية، وأحد مؤسسي كلية الحقوق في جامعة دمشق، ومؤسس نقابة المحامين في سوريا، وأحد أبرز مُشرعي الدستور السوري.

يبقى الموقف الأبرز في حياة فارس الخوري النضالية ذاك الذي سجله من خلال رئاسته وفد سوريا في جلسة الأمم المتحدة عام 1946؛ حيث دخل الخوري بطربوشه الأحمر وبذلته البيضاء وتوجه إلى مقعد المندوب الفرنسي، فجلس على الكرسي المخصص لفرنسا

عرف السوريون في فارس الخوري خلال فترة الانتداب الفرنسي على سوريا مناضلًا وطنيًا يسعى بهمة لتنال بلاده استقلالها؛ وقد تعاون مع صديقه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر على تأسيس أول حزب سياسي خلال حكم الانتداب في يونيو/ حزيران 1925، أطلق عليه اسم "حزب الشعب".

إعلان

طالب قادة الحزب بتوحيد الأراضي السورية، وتأسيس نظام ملكي دستوري في سوريا، يكون العرش فيه إما للملك فيصل أو لأحد أشقائه. شارك فارس الخوري بكتابة أهداف الحزب، الذي ضمّ نخبة من الشخصيات الوطنية في صفوفه الأمامية، مثل المحامي فوزي الغزي ولطفي الحفار وجميل مردم بك، وقد انتخب الشهبندر رئيسًا للحزب وفارس الخوري نائبًا للرئيس.

وخلال الإضراب الستيني الذي شهدته المدن السورية سنة 1936، والذي أعقب اعتقال قيادات الكتلة الوطنية، كان لفارس الخوري دور محوري في قيادة الشارع المنتفض ضد فرنسا.

وقد أجبر الإضراب الستيني حكومة فرنسا على تعديل سياستها في سوريا، حيث أطلقت سراح المعتقلين مقابل إنهاء الإضراب ودعوة وفد من الكتلة الوطنية إلى باريس للتفاوض على مستقبل سوريا.

ويبقى الموقف الأبرز في حياة فارس الخوري النضالية ذاك الذي سجله من خلال رئاسته لوفد سوريا في جلسة الأمم المتحدة عام 1946؛ حيث دخل الخوري بطربوشه الأحمر وبذلته البيضاء قبل بدء موعد الاجتماع، وتوجه بسرعة إلى مقعد المندوب الفرنسي، فجلس على الكرسي المخصص لفرنسا. دخل المندوب الفرنسي فوجد الخوري يحتل مقعد فرنسا! طلب منه المغادرة لكون المقعد مخصصًا لفرنسا، وأشار بإصبعه إلى علم فرنسا الموجود أمامه، وإلى مقعد سوريا الفارغ.

حينها، لم يتحرك الخوري ولم يُبدِ اكتراثًا، بل أخرج ساعته ووضعها أمامه، وبدأ ينظر إليها ويعد الدقائق بصوت عالٍ وسط الجميع! حاول المندوب الفرنسي تمالك أعصابه وهو يطالبه بترك مقعده، لكن ثبات الخوري أفقده السيطرة على أعصابه وبدأ بالصراخ في وجهه مطالبًا بترك مقعد فرنسا وسط ذهول جميع المندوبين ومراقبتهم، وواصل الخوري عدم الاكتراث والتحديق في ساعته، مرددًا بصوت عالٍ: "19 دقيقة، عشرون.."، فهاج المندوب وحاول التهجم عليه، فحال بينه وبين مراده سفراء الدول ناظرين باستغراب إلى الخوري!

إعلان

وفي تمام الدقيقة الـ25 وضع الخوري ساعته في جيبه، ووقف مخاطبًا المندوب الفرنسي بصوت يسمعه كل من في القاعة، ومطالبًا باستقلال بلده سوريا، قائلًا: "سعادة السفير، جلست على مقعدك 25 دقيقةً، فكدت تقتلني غضبًا وحنقًا، وقد احتملت سوريا سفالة جنودكم 25 سنة، وقد آن لها أن تستقل".. وكان أن نالت سوريا بعد ذلك استقلالها.

حضور الخوري في ساحات النضال لم يقتصر على الشأن السوري؛ فمن خلال تمثيله لبلاده في منظمة الأمم المتحدة عمل بجد لخدمة القضية الفلسطينية، بالتعاون مع مندوب لبنان شارل مالك ومندوب السعودية الأمير فيصل بن عبدالعزيز.

أُطلق اسم "فارس الخوري" على شارع كبير وسط مدينة دمشق تكريمًا له، وصدرت عدة أبحاث ودراسات تؤرخ لحياته ومسيرته

وقد عارضوا قرار تقسيم فلسطين عند صدوره عام 1947، وطلب فارس الخوري من جميع السفراء العرب مغادرة القاعة احتجاجًا. وخلال وجود الخوري في الأمم المتحدة، انتُخبت سوريا عضوًا غير دائم في مجلس الأمن، وترأس هو جلسات الأمم المتحدة في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1946.

بقي فارس الخوري في الولايات المتحدة طوال حرب فلسطين، وعاد إلى سوريا بعد انتهاء دورة بلاده في مجلس الأمن في 13 يناير/ كانون الثاني 1949.

خرجت وفود شعبية ورسمية في استقباله يوم وصوله إلى مطار المزة، وكان في مقدمتهم رئيس الجمهورية شكري القوتلي. وبعد ثلاثة أيام عاد الخوري لممارسة عمله في المجلس النيابي، الذي كان قد أعيد انتخابه رئيسًا له بالرغم من غيابه الطويل، في 27 سبتمبر/ أيلول 1947.

تاريخ 2 يناير/ كانون الثاني 1962 كان يومًا حزينًا في دمشق، إذ ودعت فارس الخوري الذي غادر دنيانا بعد مسيرة نضالية مشرفة، وكان في سدة الحكم يومها ثلاثة من طلابه القدامى، هم ناظم القدسي رئيس الجمهورية ومأمون الكزبري رئيس الوزراء ومعروف الدواليبي رئيس المجلس النيابي، إضافة لابنه الوحيد سهيل فارس الخوري الذي كان وزيرًا للشؤون البلدية والقروية.

إعلان

قرر الرئيس ناظم القدسي كسر قواعد البوتوكول وإجراء جنازة رئاسية لفارس الخوري، خرج فيها نعشه المجلل بالعلم السوري على عربة مدفع وتقدم المشيعين الرئيس القدسي والرئيس الأسبق شكري القوتلي.

أُطلق اسم "فارس الخوري" على شارع كبير وسط مدينة دمشق تكريمًا له، وصدرت عدة أبحاث ودراسات تؤرخ لحياته ومسيرته.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان