منذ أن بدأ الإنسان رحلته على هذا الكوكب، كانت محاولته الأولى في النجاة لا تتوقف عند مجرد البقاء، بل تعدته إلى محاولة فهم العالم المحيط به وإدراك معانيه.
ومع ازدياد تعقيد الحياة نشأ عند الإنسان ميل فطري للرموز والاستعارات، يحمِّلها دلالات يتفاعل معها وجدانيًا وفكريًا، ولعلّ البحر أحد أكثر الرموز تجليًا؛ فالبحر بسكونه الصافي حينًا وثورته الهادرة أحيانًا يشبه الحياة بكل تناقضاتها.. وتأتي السفينة رمزًا لا يعلى عليه للإنسان في رحلته داخل هذا الكون.
يشير مفهوم "المرونة النفسية" إلى قدرة الفرد على التعافي من الضغوط والصدمات، وهي القدرة التي تشبه تمامًا صيانة السفينة لمنع الماء من التسرّب
السفينة ليست فقط جسدًا ماديًا يعبر الماء، بل هي استعارة للذات الإنسانية؛ لما نحمله من مشاعر وهواجس وفِكَر، ولقدرتنا على الصمود أمام التقلبات.
إن العبارة الشهيرة "السفن لا تغرق بسبب المياه المحيطة بها، ولكن بسبب المياه التي تتسرب إليها".. هذه العبارة تعد من أعمق الدروس الفلسفية والنفسية، التي يمكن أن تُعطى في فهم الذات وإدارة الصراعات، وبناء الحصانة النفسية في وجه التهديدات الخارجية.
كل إنسان مثل سفينة تبحر في محيط متلاطم، تحيط به تحديات نفسية واقتصادية وعاطفية واجتماعية وثقافية، وقد لا يكون التحدي في وجود تلك التهديدات الخارجية بذاتها، بل في كيفية إدارتها والتعامل معها دون السماح لها بالتسلل إلى داخل النفس.
يشير مفهوم "المرونة النفسية" إلى قدرة الفرد على التعافي من الضغوط والصدمات، وهي القدرة التي تشبه تمامًا صيانة السفينة لمنع الماء من التسرب.
ليس المطلوب منك أن تسيطر على العالم، أو أن توقف الأمواج، بل أن تكون واعيًا لما يدخل إلى وجدانك.. لا تترك المواقف السلبية تتحول إلى رسائل داخلية تكرس الإحباط أو دونية الذات.
النجاة الحقيقية ليست في منع الريح من الهبوب، ولا الأمواج من الارتفاع، بل في صيانة السفينة بإحكام إغلاقها، وبالقدرة الدائمة على تفريغ المياه قبل أن تستقر وتثقل الكيان
يتم الحديث عن "الاستبطان السلبي"، وهو تلك العملية التي يعيد فيها الإنسان توجيه الكلمات والفِكَر السلبية التي تلقاها من الخارج، ليجعلها جزءًا من خطابه الداخلي وكأنها حقيقة، وهنا تكون السفينة قد بدأت بالغرق فعليًا.. نحن لا نُهزم بسبب العالم، بل حين نؤمن بأننا لا نستحق النصر، حين نصدق أن الهزيمة حتمية.
نجد أن المجتمعات الأكثر قدرة على الصمود ليست تلك التي تخلو من التحديات، بل التي تحسن التماسك الداخلي، وتبني شبكات الدعم والتضامن مثل جسد السفينة المتماسك، الذي يمنع تشققاته من أن تتحول إلى ثغرات للماء.
يشير سارتر إلى أن الإنسان ليس ما يقال له بل ما يختاره أن يكون! وهذه العبارة تكاد تكون صدى مباشرًا لفلسفة السفين.. أن تختار ما تسمح له بالدخول إلى كيانك وما تبقيه خارجًا.
هذا المبدأ ينطبق على كل شيء: العلاقات السامة، الخواطر السوداوية، الإحباطات المتكررة، الفقدان، الخيانة.. كلها مياه تحيط بنا، لكن السفينة يجب ألا تستسلم.
حين نبدأ بتصديق الأكاذيب التي قيلت لنا، حين نقلل من ذواتنا، حين نعيش في جلد الذات، حين نحمل فوق قلوبنا أوزار الجميع.. حينها نسمح لتلك (المياه) أن تتسرب، نكون قد بدأنا فعليًا بالغرق من الداخل.
النجاة الحقيقية ليست في منع الريح من الهبوب، ولا الأمواج من الارتفاع، بل في صيانة السفينة بإحكام إغلاقها، وبالقدرة الدائمة على تفريغ المياه قبل أن تستقر وتثقل الكيان.
فلسفة السفينة ليست عزلة بل هي وعي.. وعي بأنك تختار ما يدخل إليك وتقرر ما يبقى في الخارج، إنها دعوة للاتزان، للصلابة، للتسامح دون الانكسار، وللبقاء حيًا في أقسى الظروف
في كل مرة تتعرض فيها للأذى تذكر أنك لست البحر بل السفينة؛ والبحر -وإن علا- لا يستطيع ابتلاعك ما لم تسمح له بذلك.
لا تدع ما يحدث حولك يتحول إلى صدى داخلي يعكر صفوك، أنت لست مجبرًا على أن تحمل العالم بأسره على كتفيك.. احم ذاتك، رمِّم روحك، ضع حدودًا واضحة بينك وبين ما يرهقك.
فلسفة السفينة ليست عزلة بل هي وعي.. وعي بأنك تختار ما يدخل إليك وتقرر ما يبقى في الخارج، إنها دعوة للاتزان، للصلابة، للتسامح دون الانكسار، وللبقاء حيًا في أقسى الظروف.
تذكّر دومًا.. النجاة تبدأ من الداخل .
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.