شعار قسم مدونات

ورش الاستشراق في المجتمعات المعاصرة.. رؤى وملاحظات

المؤتمر الدولي للاستشراق في نسخته الأولى بالدوحة
المؤتمر الدولي للاستشراق في نسخته الأولى بالدوحة

شكل موضوع الاستشراق -ماضيًا وحاضرًا- مجالًا جدليًّا بامتياز؛ فمنذ ستينيات القرن الماضي، وبعدما كتب الراحل إدوارد سعيد كتاب "الاستشراق.. المفاهيم الغربية للشرق"، وكتب غيره من الباحثين والأكاديميين في هذا الميدان، تكرر طرْح السؤال: ما الداعي للعودة لموضوع استهلك وأُشبع دراسةً وبحثًا.

بيد أن التحولات العالمية الراهنة أعادت فتح النقاش من جديد في موضوع الاستشراق، خصوصًا بعد تنظيم دولة قطر فعاليات كأس العالم في سنة 2022.

ومع اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والأحداث الكبرى في فلسطين المحتلة بعد عملية طوفان الأقصى، دخل العالم مرحلة اللايقين، وبدأ التشكيك في القيم والمعايير والقوانين التي لم يعد لها معنى في ظل الانحياز اللامعقول في تطبيقها على دول الجنوب، ومنها الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، واستثناء دول أخرى كأوكرانيا، ومحاباة مطلقة للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة.

ولم يعد ممكنًا التغاضي عن هذه الأحداث، وعدم ربطها بالسياق المحتدم الذي أحيا مقولات صراع الحضارات بدل حوار الحضارات، ومقولات "نحن وهُم"، ونظرية المؤامرة، والحروب الصليبية.

بين الدكتور عصام نصار في ورقته المعنونة بـ "فلسطين في الاستشراق التوراتي" كيف تلاعب المؤرخون الصهاينة بإيعاز من السياسيين في كتابة سردية بعيدة عن الوقائع، تدعي زورًا وبهتانًا أن أرض فلسطين لم تكن أرضًا لشعب

في هذا السياق المتموج والمتوتر، نظمت وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي في قطر، بمعية شركاء آخرين في الدولة، المناظرة الدولية الأولى في موضوع "المؤتمر الدولي للاستشراق" يومي 26 و27 أبريل/ نيسان بالدوحة، وهي الندوة الدولية التي تهدف إلى تجاوز الثنائيات القاتلة، أو "الهويات القاتلة" كما عبر عن ذلك "أمين معلوف" في كتابه.

بل إن الندوة تسعى إلى إطلاق حوار علمي وأكاديمي بين المتخصصين وصناع السياسات العمومية عربيًا وعالميًا، بهدف تجسير الفجوات وتجاوز الأحكام النمطية والكليشيهات المقيتة.

وطيلة يومين من النقاش والحوار بين أزيد من ثلاثمئة من الأكاديميين والعلماء والباحثين من 50 دولة من كل أنحاء العالم، في مواضيع تستأثر باهتمام خاص، كالاستشراق الصهيوني والفرنسي والأميركي والروسي والصيني والأوروبي، علاوة على طرح مفاهيم مثل الاستغراب والاستشراق المعكوس على حد تعبير "جلال العظم".

إعلان

ولعل ما ميز هذه الندوة الدولية الأولى هو الطابع المناظراتي الذي هيمن على كل الجلسات؛ فالمتدخلون والحضور يتجادلون في المفاهيم والنظريات ووجهات النظر، وكل ما يهم الاستشراق في سياقه الأور-أميركي، أو في دول الجنوب، أو في العالمين؛ العربي والإسلامي.

تستوقفنا تيمة الاستشراق الصهيوني من خلال كتابة تاريخ دولة فلسطين، حيث بين الدكتور عصام نصار في ورقته المعنونة بـ "فلسطين في الاستشراق التوراتي" كيف تلاعب المؤرخون الصهاينة بإيعاز من السياسيين في كتابة سردية بعيدة عن الوقائع، تدعي زورًا وبهتانًا أن أرض فلسطين لم تكن أرضًا لشعب، بل كانت أرضًا بدون شعب.

وقد بين المحاضر عصام ذلك من خلال رسم الخرائط الطبوغرافية المزورة، وانتحال التاريخ المحلي بدعوى وجود كيان لليهود في سنين غابرة، وهو ما فنّده المحاضر بالوثائق التاريخية المضادة، التي تتحدث عن تاريخ فلسطين ومدنها، كحيفا ونابلس وعكا، في عصور ما قبل الميلاد وما بعده.

بين عدد من الأكاديميين أنه يصعب، من الناحية المنهجية والعلمية، دراسة مجتمعات بخلفيات وبراديغمات مغايرة لهذه المجتمعات؛ فالحرية في السياق العربي الإسلامي هي حرية مسؤولة، وليست حرية مطلقة أو عبثية تضر بالفرد والمجتمع

لم يكن الاستشراق الأميركي ليختلف عن صنوه الصهيوني، لأنهما يشتركان في الخلفية والرؤية والبراديغم؛ لكن ما ميز الاستشراق الأميركي المعاصر هو الاعتماد على ما تنتجه مراكز الأبحاث (Think Thanks) من تقارير وتوصيات، تهم مجمل الحياة المجتمعية والسياسية والفكرية للمجتمعات العربية والإسلامية، لعل من بينها تقارير وزارة الخارجية الأميركية حول "حرية الأديان" في العالم، والتي دائمًا ما تقدم نتائج مشكوكًا في صحتها، من قبيل أن أغلب الدول العربية والإسلامية تعمل من خلال القوانين والتشريعات على خنق الحريات الفردية والدينية والجماعية، وكذا خنق حرية الأقليات والإثنيات.. وهو ما تصدى له الباحثون في دحض هذه النتائج غير المبنية على وقائع ملموسة.

بالمقابل، فقد بين عدد من الأكاديميين أنه يصعب، من الناحية المنهجية والعلمية، دراسة مجتمعات بخلفيات وبراديغمات مغايرة لهذه المجتمعات؛ فالحرية في السياق العربي الإسلامي هي حرية مسؤولة، وليست حرية مطلقة أو عبثية تضر بالفرد والمجتمع. وثانيًا، لا يمكن أن نستخلص نتائج تتماشى مع السياق الأميركي أو الأوروبي في مسألة الحرية والمسؤولية والدين والقوانين وما إلى ذلك.

وقد أشار العديد من المتدخلين إلى أن هذا الجدل، الذي ساوق مفهوم الحرية، وجد مثله في السياق الأورو-أميركي، وطرحت بشأنه العديد من التحفظات، لعل آخرها ما صدر عن الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" من منعه بشكل قانوني لحق المتحولين جنسيًّا والمثليين، فقد قال إنه لا يمكن القبول بأنصاف رجال أو أنصاف إناث؛ فإما أن تكون ذكرًا أو تكون أنثى.

ولعل هذا المثال يبين مدى حجم الهجوم المجاني الذي عانت منه دولة قطر إبان تنظيمها كأس العالم في العام 2022، عندما رفضت أن يتم إشهار رموز تثمّن المثلية والمتحولين جنسيًّا.

غالب المنتديات الكبرى إما تكون في دوائر مغلقة، لا تحضرها إلا نخب معينة، ويقل فيها الحوار، وتحضر فيها التوصيات والينبغيات.. بينما مناظرة الاستشراق في نسختها الأولى حققت هذا التلاقح الخلاق بين مختلف الفاعلين

ختامًا، يمكن القول إن الندوة الدولية الأولى للاستشراق، التي أطلقتها الأستاذة "لولوة الخاطر"، وزيرة التربية والتعليم والتعليم العالي، تعد حدثًا علميًا وأكاديميًا متميزًا وسمَ سنة 2025.

وقد تبين من خلال أشغال المؤتمر، الذي استغرق يومين في الدوحة، أنه حقق نجاحًا منقطع النظير لما وفره من جو نقاشي قلما حضر في الملتقيات والمنتديات العالمية، والتي تعجز عن تجسير الهوة بين النخب السياسية والأكاديمية من جهة، وبين الجمهور من طلاب وباحثين وإعلاميين وعموم المهتمين.

إعلان

فغالب المنتديات الكبرى إما تكون في دوائر مغلقة، لا تحضرها إلا نخب معينة، ويقل فيها الحوار، وتحضر فيها التوصيات والينبغيات.. بينما مناظرة الاستشراق في نسختها الأولى حققت هذا التلاقح الخلاق بين مختلف الفاعلين.

ولهذا يمكننا القول إن الندوة بهذا الشكل قد أعادت التفكير في موضوع يبدو قديمًا، لكنه ما زال متجددًا، وسيبقى كذلك ما دامت الأحكام النمطية والصور الجاهزة، والأحكام غير المتزنة والراسخة في اللاوعي والذاكرة الجمعية والفردية، تدفع في اتجاه الصدام والقطيعة والعنف والكراهية.

وعلى أمل أن يتجدد اللقاء في السنة المقبلة في النسخة الثانية من مناظرة الاستشراق، بأسئلة جديدة وبمحاور مبدعة، وبحوار جدلي مع أكاديميين من شتى بقاع الأرض، اختُتمت فعاليات مؤتمر كانت الحاجة ماسّة إليه في ظلّ التحديات التي يعرفها الوطن العربي مشرقًا ومغربًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان