- مَن العالِم؟ العالِم الرسالي والعالِم الوظيفي:
شاع في عرف كثير من الناس -عامتهم وخاصتهم- أن يطلقوا اسم العالم على من يحفظ ويطلع على كثير من المعارف الدينية، خصوصًا منها المعارف الفقهية، وهو ما يعكس تحولًا في مفهوم العالم بانتقال دلالته من المعنى الشرعي إلى المعنى العرفي، فطغت بذلك دلالة الأخير على دلالة الأول.
فالعالم في الاستعمال الشرعي هو "العالم الرسالي" الذي يعمل بمقتضى ما يعلم، ويقوم مقام الأنبياء في وظيفتهم المبينة بمقتضى قوله تعالى: ﴿هو الَّذي بعث في الأمِّيِّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبينٍ﴾ [الجمعة: 2]؛ فيحمل رسالة الإصلاح ومحاربة الإفساد ما استطاع، ويبين الحق ولا يكتمه، وينصح لله ورسوله وللمومنين، ولأئمة المسلمين وعامتهم.
إذا كان الأنبياء قد بلّغوا الدين وحملوا الرسالة، فمهمة العلماء هي حفظ ذلك الميراث وتبليغه بكل أمانة، والنضال في سبيله بمختلف الوسائل، وابتكار هذه الوسائل نفسها
وقد تضافرت النصوص الشرعية على بيان هذا المعنى، منها قوله تعالى: ﴿ما كان لبشرٍ أن يؤتيه اللَّه الكتاب والحُكم والنُّبوَّة ثمَّ يقول للنَّاس كونوا عبادًا لي من دون اللَّه ولكن كونوا ربَّـانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون﴾ [آل عمران: 79].
فمعنى الرباني العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم (القرطبي). ومعناه كذلك أن يكونوا مخلصين لله دون غيره، فإنّ فائدة العلم العمل (ابن عاشور). وقد رُوي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: إن الفقه ليس بكثرة السرد، وسعة الهذر، وكثرة الرواية، وإنما الفقه خشية الله عز وجل.
والحاصل مما سبق أن العالِم في استعمال الشرع هو العامل بما يعلم، الحامل لرسالة الإصلاح أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، و"المؤهَّل بما له من علم ومعرفة بأن يقدم لجماعته من الوظائف الثقافية والاجتماعية ما لا يستطيع غيره أن يقدمه، لأنه يمثل وعي جماعته وضميرها، وإرادة التغيير فيها".
وهو الذي لا يتقاعس عن أداء ما وجب عليه من حق نحو المجتمع، بحسب الحاجات الاجتماعية والظروف والمراحل التي مرت بها الأمة، وما يجد فيها من وقائع تستدعي مشاركتهم، (الإصلاح في المغرب الحديث.. حضور العلماء وإسهاماتهم الوطنية.. العلماء العضويون/ مصطفى بنحمزة).
وإذا كان الأنبياء قد بلّغوا الدين وحملوا الرسالة، فمهمة العلماء هي حفظ ذلك الميراث وتبليغه بكل أمانة، والنضال في سبيله بمختلف الوسائل، وابتكار هذه الوسائل نفسها (مهمة علماء الإسلام، علال الفاسي).
تلك وظيفة "العالم الرسالي" وذلك رسمه، وضده "العالم الوظيفي" الذي لا يرى المعرفة إلا من زاوية ما تدره من وظيفة أو مردود مادي ومعنوي، لا من زاوية رسالتها وبعدها القيمي، المؤدي للوظيفة المرسومة له.
وظيفة العالم الرسالي ما حدده الفرقان لا ما حدده السلطان.. هو عالم رباني، عالم الأمة يعيش همومها وآمالها وآلامها، ويدافع عنها، ويبين لها الحق ويرشد إليه، وليس عالمًا وظيفيًا موظفًا عند السلطة، يأخذ أجرته من المال العام بغير حق
ومن أوفى من القرآن الكريم ببيان مهمة العالم الرسالي والتحذير من العالم الوظيفي، في قوله تعالى: ﴿وإذ أخذ اللَّه ميثاق الَّذين أوتوا الكتاب لَتبيِّننَّه للنَّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا فبئس ما يشترون﴾؛ فقد دلت هذه الآية العظيمة في هذا المقام على أمور منها:
- أن بيان الحق ميثاق أخذه الله على الذين آتاهم الكتاب، والذين نبذوا الميثاق وراء ظهورهم خانوا أمانة الله ورسالاته.
- التحذير من التجارة بالدين: "اشتروا به ثمنًا قليلًا"، أي باعوا علمهم ومواقفهم مقابل مكاسب دنيوية تافهة، وهذا من أبرز صور "خيانة العلماء" الذين يُزيّنون الباطل ويدافعون عنه، وإن كتمان العلم وتوظيفه لأغراض نفعية يفسد الدين والدنيا، وإن "فبئس ما يشترون" تأكيد على سوء العاقبة.
- هذه الآية تؤسس لمنهج أخلاقي صارم للعالم والداعية والمثقف في أداء رسالته، وتُظهر خطورة التفريط فيها.
- دل الفعل المضارع على أن واجب البيان أمر يقتضي التكرار والاستمرار.
فوظيفة العالم الرسالي ما حدده الفرقان لا ما حدده السلطان.. هو عالم رباني، عالم الأمة يعيش همومها وآمالها وآلامها، ويدافع عنها، ويبين لها الحق ويرشد إليه، وليس عالمًا وظيفيًا موظفًا عند السلطة، يأخذ أجرته من المال العام بغير حق.
لقد خسر العلماء بتقاعسهم عن بيان الحق والباطل أنفسَهم، وأزروا بها وبما يحملون من علم، وتركوا المرابطة على الثغور التي تؤتى منها الأمة معرفيًا وقيميًا
ماذا خسر المجتمع بخيانة العلماء؟
إن غياب دور العالم الرسالي وتصدُّر العالم الوظيفي تسبب في خسارة المجتمع والأمة رأس مالٍ رمزيٍ عظيم، وأسهم في تعطيل نهضة الأمة وتأخيرها لعقود من الزمن، فــ"حالة الجمود والتراجع في الفكر الإسلامي، الذي انعكس بدوره على حركة الأمة العلمية والاجتماعية، ترجع إلى جمود العلماء أنفسهم، وعدم استجابتهم لحاجات الأمة الحقيقية، وعدم قيامهم بواجبهم".
لقد خسر العلماء بخيانتهم وتقاعسهم عن بيان الحق والباطل أنفسَهم، وأزروا بها وبما يحملون من علم، وتركوا المرابطة على الثغور التي تؤتى منها الأمة معرفيًا وقيميًا، وتخلفوا عن النقاش العمومي وقضايا المجتمع، وتركوا العامة في فتنة علمية ودينية كبيرة، وتصدى المضلون من أصحاب التفاهة، وأسهموا في علمنة الدين في نظر العامة، فصار كثير منهم يظن أن الدين لا يعدو أن يكون حديثًا مكرورًا عن "أركان الإسلام"، وكأنه لا علاقة لهم بواقع المجتمع والأمة ومخاضاتها الكبرى وتحولاتها.
فغاب دورهم وتأثيرهم في توجيه العامة بصفتهم أسوة حسنة مؤثرة، ففقدوا احترام العامة وتقديرهم، وأخلفوا الموعد مع دينهم ومجتمعهم وأمتهم.
ومسك الختام نص نفيس لأبي حامد الغزالي، يصف الداء والدواء عن خبرة عميقة بعبارة رشيقة: "… ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يَقدر على الحِسْبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر؟" .
بالملح نصلح ما نخشى تغيّره .. فكيف بالملح إن حلّت به الغير؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.