شعار قسم مدونات

رحلة إلى الأندلس.. من الجزيرة الخضراء إلى قرطبة والزاهرة

الكاتب: يدخل الشاب قرطبة حالمًا بعِظَمِ الأمور، حاملًا فصاحة اللّسان وحبًّا لذات وصوت الحكمة (مواقع التواصل)

بعد مشاهدتي مقطع "ريلز" لأحد صانعي المحتوى، الناشرين والمدافعين على ثقافة القراءة، وبينما هو يعرض مجموعة جديدة من الروايات التي ينصح بقراءتها، استوقفتني هذه الرواية، وأنا أعلم أنه ليس سهلًا أن يتمّ إقناعي بقراءة رواية!! صراحةً، لم يكن اختياري لها كرواية قادمة مبنيًا على إعجابي بغلافها، أو عنوانها، أو حتى تلخيص الكاتب! لا أعرف، ربّما كان حدْسًا ما.

مباشرةً خرجت من المقطع، وبدأت أبحث عنها في الإنترنت، بدأت بسرعة أتجاوز الصفحات الأولى باحثًا عن بداية "الرحلة القادمة التي سأغوص فيها".. ثلاثة شبان يقومون ببيع مواد وخلطات رجاليّة.. حوار شيق بين أمهرهم، محمد بن أبي عامر، مع أحد الزبائن. ثم خرجت من الصفحة والإنترنت.

على عكس بقيّة الكتب والروايات التي قمتُ باقتنائها من الإنترنت، لم يكن العثور على "مواعيد قرطبة" بالأمر الهيّن. والطريف في الأمر أنه بعد بحث طويل داخل تونس لم أجدها، حتى فكرت باقتنائها من سلطنة عمان، ولكني وجدتها أخيرًا.. وأين؟ في ولاية بنزرت، حيث أقيم وأعمل!

هذا الوصول إلى الحكم، كان في البداية في نظر المحيطين بالقصر وقتيًّا، لحماية هشام المؤيّد بالله -ابن الخليفة الوحيد، وولي العهد- من طمع أحد أعمامه بالحكم، ومحاولة قتله ليلة تنصيبه!

الطريق إلى السلطة

وبمجرد أن وصلتني رائعة وليد سيف، واصلت رحلتي في الجزيرة الخضراء، رفقة زيّاد المائل إلى الصّخب واللهو، وعمرو الذي يُؤخذ برأيه ويحسب خطواته القادمة، ثمّ محمّد بن أبي عامر، بطل الأندلس، وقاهر الإمبراطوريات الشرسة في تلك الفترة، على غرار إمبراطورية ليون.

يدخل الشاب قرطبة حالمًا بعِظَمِ الأمور، حاملًا فصاحة اللّسان وحبًّا لذات وصوت الحكمة، هذا الأخير لم يعجب بعض زملائه الطلاب الصقالبة داخل مجالس التعلّم، فمن هذا الذي ينافس أبناء ولاة الأمور ويقاطعهم؟

بذلك أصبح حلم الوصول إلى حكم البلاد هاجسًا حقيقيًّا أكثر من أي وقت، لرؤيته تجاوزات لهم داخل الأسواق على البائعين، واعتداءات على المارة، ولمكانتهم داخل قصر الخليفة المستنصر بالله، الذي جعل مسألة معاقبتهم أمرًا مؤجّلًا رغم ما وصله من شكاوى عليهم.. ومع كل هذا، هناك الأمر الذي بقي في ذهنه عندما أذله أحدهم وداس على عمامته!

إعلان

بوصوله إلى السلطة، حقّق ابن أبي عامر أمنيات أصدقائه التي وعد بتنفيذها عند إمساكه زمام الأمور، فمنهم من تمنى ولاية مدينة كاملة، ومنهم من أراد الغِنى، ومنهم زياد الذي أراد ضربه بسياط وسط الناس حتى الموت، فرغم مزاحه لحظة التمنِّي لابتعاد المنال في نظره على ابن أبي عامر، فقد كان له ذلك بعد معاقبته بسبب إدمانه على الخمر ومعاكسة النساء.. جلب العار لصديقه الحاكم!

هذا الوصول إلى الحكم، كان في البداية في نظر المحيطين بالقصر وقتيًّا، لحماية هشام المؤيّد بالله -ابن الخليفة الوحيد، وولي العهد- من طمع أحد أعمامه بالحكم، ومحاولة قتله ليلة تنصيبه!

فعاقب ابن أبي عامر كل من حاول وساعد وخطّط في ذلك، ما كان كافيًا لمسك زمام الأمور حتى كِبَر الخليفة الصغير. لكن مع الوقت ظهر أنّه لن يتنحى عن قصر قرطبة! خاصة مع قيادته الناجحة للحملات العسكريّة، ومع قضائه على الصقالبة من أعلاهم شأنًا إلى أدناهم مكانة، سواء بالإعدام أو بالسجن، وبقضائه على أخي الخليفة عبدالله بن عبدالرحمن المستنصر، المتعاون مع مملكة ليون، عدو الأندلس الأول والفار إليها، إضافة لقتله أحد ابنيه لفراره إلى نفس المملكة.

بمجرد أن أنهيت السطر الأخير في الصفحة التاسعة والخمسين بعد السبعمئة، تذكّرت هذه الرحلة، كيف أنّه لم يوقفه شيء.. لا أحد أصدقائه، ولا حبَّه لـ"أورورا" الجارية، التي لم أذكرها لتركيزي على صعوده المتدرّج في قصر قرطبة

وكان الأمر أن يكتب هشام بيانًا رسميًا للعامة يحمل ختمه، يعلن فيه عن تخلّيه عن أمور الخلافة لصالحه، بتهديد فعلي يُجنّب ابن أبي عامر إراقة دماء الشعب الذي كان يرى أن هشام هو الخليفة الفعلي لكونه من الأمويين. وبذلك أصبح ابن أبي عامر أكثر حرية في التصرف، فاتخذ لقب الحاجب المنصور، ثم أسس الزاهرة وجعل منها عاصمة جديدة للأندلس، فقضى جلّ ولايته في قتل أي شخص يشعر أنه سيشكّل تهديدًا لسلطانه في المستقبل، وبذلك كان تثبيت سلطته، وتأمين حدود الدولة، وإحياء محبة العامة والجيش من خلال الغزوات الناجحة والمتتاليّة، التي بلغ عددها خمسين غزوة، توفي في الأخيرة منها ودُفن في نفس المكان الذي توفي فيه، ونُقش على قبره:

آثــاره تـنـبـئ عـن أخــبـاره .. حتى كأنـك بالـعـيــان تــراه

تالله لا يأتي الزمــان بمثـلـه .. أبدًا ولا يحمي الثغور سواه

وبذلك دُفن أحد أبرز القادة المسلمين، ودَفَنّا نحن بعده بقرون الأندلس التي بدأت في الانحدار بعده.

بمجرد أن أنهيت السطر الأخير في الصفحة التاسعة والخمسين بعد السبعمئة، تذكّرت هذه الرحلة، كيف أنّه لم يوقفه شيء.. لا أحد أصدقائه، ولا حبَّه لـ"أورورا" الجارية، التي لم أذكرها لتركيزي على صعوده المتدرّج في قصر قرطبة، ولا حتى أحد ابنيه الذي قتله لفراره إلى ليون بعد خوفه من والده، ووفاة عمرو بعد إرساله في أحدى عمليات الانتقام.

أثناء قراءتي الرواية كنت -صراحةً- شديد التضامن معه ومشجّعًا له، ما جعلني أتقمص دوره ربما بسبب الأحداث المتتالية والتركيز الشديد للكلمات. ولكن بعد الانتهاء فكرتُ متأملًا.. فرغم نجاحاته في قيادة البلد، هو حوّل صديقيه زياد وعمرو من مجرّد بائعين في ريف الجزيرة الخضراء إلى مقتولين في رحاب الأندلس! نجاح الحاجب المنصور في قيادة الأندلس ربما كان ثمنه دماء صديقَيه وابنه وعلاقاته القريبة.

إعلان

عجبًا للسلطة!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان