شعار قسم مدونات

اللبن.. وتنازع شرف الإضافة

شرب الحليب الخام
الكاتب: من الأمثال الحسانية "اللبن ووجه الرسول"، وهو مثل يضرب لاجتماع أسباب الرغبة واستيفاء دواعي الإقبال (شترستوك)

ما كنت أحسب مفردة "الرِّسْل" إلا خاصة بقدح لبن الإبل، حتى سألت عنها والدي -رحمه الله- وكان مرجعًا في اللغة والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، فأخبرني أنها عامة؛ تصدق على ألبان الأنعام كلها.. ثم أنشدني بيتًا متنازعًا بين أنصار الألبان، يتحدث عن نوع اللبن الذي تذكر مصادر السيرة أنه قُدِّم للنبي ﷺ ليلة الإسراء، مع قدح آخر فيه خمر، "فنظر إليهما، كأنه خُيِّر بينهما، فأُلهم ﷺ اختيار اللبن، فأخذ اللبن، فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، أي: اخترت علامة الإسلام والاستقامة، وجعل اللبن علامة على ذلك لكونه سهلًا طيبًا طاهرًا سائغًا للشاربين، سليم العاقبة".

نقل التنازع البيت من تسجيل مشهد لحدث تاريخي إلى "دعاية"، لو اهتدى باعة الألبان إلى استغلالها تجاريًا لأمسكوا بزمام عاطفة المستهلك، وسلكوا إلى جيبه طريق قلبه

تجاذب المتنافسين!

وقد تجاذب البيت مريدو الألبان الثلاثة، فقال أنصار الإبل في تحديد صنف الأنعام المقدم لبنه للنبي ﷺ:

اللبن المهدى لخيــر الرُّسُـل .. في ليلة الإسراء رِسل الإبل

وقال أنصار البقر:

اللبن المهـدى لخيـر مضـر .. في ليلة الإسراء رِسْل البقر

وقال حزب الغنم:

اللبن المهـدى لخـيـر الأمــم .. في ليلة الإسراء رِسْل الغنم

قلت: لعمري، لئن كانت تلك المصادر التراثية قد ذكرت مادة اللبن غير مضافة، لقد ملأ محبو كل صنف فراغ الإضافة بما "يحلو" لهم! ورب فائدة استُخرجت من وعاء جدل مفرغ، وعائدة استجلبت من مرويات سرد منقول!

وغيرَ فرَح كل حزب بما لديهم، وجذْب كل فريق شرف الإضافة إلى حيوانه المفضل، يُحيل التصرف -والتحوير- في "عروض" البيت و"ضربه" إلى ظاهرة بارزة، هي مرجعية الأنظام في الثقافة المحظرية الشنقيطية؛ فقد نقل التنازع البيت من تسجيل مشهد لحدث تاريخي إلى "دعاية"، لو اهتدى باعة الألبان إلى استغلالها تجاريًا لأمسكوا بزمام عاطفة المستهلك، وسلكوا إلى جيبه طريق قلبه.

اتحاد الرغبة والمحبة

ومن الأمثال الحسانية "اللبن ووجه الرسول"، وهو مثل يضرب لاجتماع أسباب الرغبة واستيفاء دواعي الإقبال، وأصله أن بدويًا قادته طريق السفر إلى قوم، فرأوا من كمال إكرام الضيف أن يقدموا له قدحًا من لبن (رِسل إبل)، فاستحيا أن يشربه وكان يحبه، فقالوا له: ناشدناك بوجه الرسول ﷺ أن تشربه عن آخره! فقال عندئذ: "اللبن ووجه الرسول" ﷺ، تعبيرًا عن استجابته للطلب الذي زادت رغبته في تحقيقه، وارتفع عنه حرج الاستحياء من إجابته!

ما كنت لأحظى بهذه الفائدة الطريفة لو استعنت بمعجم لغوي "سريع" ملتمسًا معاني مادة "رس ل"؛ بل لعلي لم أكن لأصادفها بين دفتي مرجع يتناول قصة الإسراء والمعراج

سلطة النظم

ولست أدري ما  مستند صاحب البيت الأصلي؛ إذ قد تزيد نقولات السير على ما في كتب الحديث والسنة، ومن المعلوم أن السير تجمع بين تضاعيفها ما صح وثبت، وما أُنكر ووهن.. وما أعظم الفرق بين الاستفادة العلمية من الأنظام والتقييدات، وبين التعلق المزاجي بها، والتعصب لمخرجاتها، الذي صد كثيرًا من الناس عن التأصيل، وحبسهم عن التحرير، ودفعهم إلى منحها "سلطة المرجعية" المطلقة، وقوة الإلزام النافذة!

إعلان

ورغم عواهن التعصب العرضية، وغواشي النمطية العابرة، تبقى من حسنات الدرس المحظري فوائد الاستطراد، وشذرات الشواهد، ونتف الإحالات التي تخدم المتلقي في أكثر من مجال؛ موسِّعة دائرة التخصص.. على طريقة "الكشكول" و"الكناش"، التي كانت سائدة قبل أن تتغلب لمسة "محركات البحث" الإلكترونية، التي طوت المسافة واختصرت الوقت!

ورغم فارق التسهيل، فإن مع الأولى بركة لا تكاد توجد في الثانية!!

متعة المشافهة

وما كنت لأحظى بهذه الفائدة الطريفة لو استعنت بمعجم لغوي "سريع" ملتمسًا معاني مادة "رس ل"؛ بل لعلي لم أكن لأصادفها بين دفتي مرجع يتناول قصة الإسراء والمعراج، ولو وقفت عليها فيه فأين حلاوة الأخذ والتلقي عن طريق "إسناد الركبة إلى الركبة"؟! ولا تستوي ثمرات المدارسة الشفهية، وعوائد المطالعة الحرة.

فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد له في جميع الأحوال، ويا حسرتا على ما فرطت في جنب التحصيل المواتي والتلقي السانح، وإن كنت لمن المقصرين!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان