شعار قسم مدونات

الذكاء الاصطناعي قادم.. ولكن من ينقذ الإنسان؟

الذكاء الاصطناعي مفهوم جديد على مجال تعليم اللغات (غيتي)
الكاتب: الموظف المثالي في المؤسسات الحديثة هو ذلك الذي يجمع بين كفاءة رقمية عالية وقدرة على التعامل مع الآلات (غيتي)

في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، تتعالى الأصوات المحذّرة من فقدان الإنسان لجوهره وسط ضجيج الآلات والخوارزميات. ورغم التباهي بإمكانات الذكاء الاصطناعي الخارقة، يبرز سؤال ملحّ: ماذا عن الإنسان؟ من يُنقذ التعاطف من الجفاف؟ من يُعيد للّغة معناها في زمن تُكتب فيه التقارير بلغة آلية باردة؟

تقرير دولي حديث صادر عن منصة "Workday"، بعد استجواب 2300 مدير شركة في مختلف أنحاء العالم، كشف مفارقة مثيرة: المهارات التقنية باتت مطلوبة، نعم، لكنّ المهارات الإنسانية صارت أغلى وأكثر نُدرة.

في بلجيكا، مثلًا، صرّح 85% من المسؤولين بأن "المهارات الاجتماعية" هي الأهم حاليًّا، وهو ما يتفوّق حتى على التخصصات الرقمية

المهارات الرقمية وحدها لا تصنع المعجزات

لقد تحوّل إتقان أدوات الذكاء الاصطناعي إلى مطلب وظيفي أساسي.. الموظف المثالي في المؤسسات الحديثة هو ذلك الذي يجمع بين كفاءة رقمية عالية وقدرة على التعامل مع الآلات؛ بل ويجيد التفاعل معها بلغة الأوامر والأكواد.

لكن المفارقة أن أكثر من نصف قادة الشركات أنفسهم يعترفون بعجزهم عن تحديد هذه المهارات الرقمية الدقيقة داخل مؤسساتهم؛ كما أن 70% منهم تقريبًا لا يثقون تمامًا بقدرة مؤسساتهم على الصمود مستقبلًا فقط من خلال الرهان على الكفاءات التقنية.

المعنى؟ أن الرهان الحقيقي ليس فقط على تقنيات خارقة، بل على بشر يفهمون السياق ويقدّمون المعنى، وهذا ما لا يمكن ترجمته بخوارزمية.

إعلان

العودة إلى جوهر الإنسان

ما أعادت الدراسات العالمية التذكير به ليس جديدًا، لكنه يُقال اليوم بلهجة مُلِحّة: التعاطف، والقدرة على الاستماع، ومهارات التواصل، والخيال الإبداعي.. ذلك ما يعطي للعمل روحًا. قد تكون الروبوتات أكثر كفاءة في فرز البيانات، لكنها عاجزة عن قراءة الحزن في صوت زميلك، أو التقاط التوتر في نظرة عميل.

في بلجيكا مثلًا، صرّح 85% من المسؤولين بأن "المهارات الاجتماعية" هي الأهم حاليًّا، وهو ما يتفوّق حتى على التخصصات الرقمية. لماذا؟ لأن التكنولوجيا -مهما بلغت- لن تُغني عن إنسان يعرف كيف يُلهم، يُصغي، ويبني الثقة داخل الفريق.

إن الأزمة ليست فقط اقتصادية أو تعليمية، بل هي إنسانية في جوهرها! ماذا يحدث عندما تبدأ المؤسسات في ترقية من يبرعون في التعامل مع الخوارزميات، بينما يُهمل أصحاب الحس الإنساني العالي؟

المدرسة: أولى ضحايا الخلل في الفهم

ما يقلق أكثر هو انعكاسات هذا السباق الرقمي على المدارس والجامعات؛ إذ بات الطالب يُقاس وفق قدرته على استعمال أدوات الذكاء الاصطناعي، لا على قدرته على التعبير عن فِكَره أو التفكّر في قضايا مجتمعه.

نُدرب الأطفال على التعامل مع الشاشات، ولكن من يُدرّبهم على التعامل مع الإنسان؟ نُعلّمهم كتابة الأوامر بلغة الآلة، لكن من يُعلّمهم فن الإصغاء؟

إننا أمام لحظة حرجة تُحتم علينا إعادة النظر في الأولويات التربوية.. لا مستقبل لمدرسةٍ تُنتج متعلمين آليين يجيدون "النسخ الذكي"، ويعجزون عن طرح سؤال صادق أو بناء حوار هادئ.

خطر التهميش العاطفي

إن الأزمة ليست فقط اقتصادية أو تعليمية، بل هي إنسانية في جوهرها! ماذا يحدث عندما تبدأ المؤسسات في ترقية من يبرعون في التعامل مع الخوارزميات، بينما يُهمل أصحاب الحس الإنساني العالي؟

عندما تُقاس القيمة الإنتاجية بمدى السرعة والدقة الرقمية، فإننا سنكون أمام مجتمع يُهمّش العاطفة، ويحتقر التأمل، ويعتبر "الخيال" ترفًا لا جدوى منه.

والمفارقة الكبرى أن الذكاء الاصطناعي نفسه لا يُمكن أن يعمل بكفاءة من دون "مدخلات بشرية" صادقة، ومن دون من يُوجّهه ويعطيه القيم والمعايير. كيف ننتج نظامًا أخلاقيًّا من خلال أدوات بلا وعي ولا شعور؟

التقدّم الرقمي قادم لا محالة، وهذا جيد.. لكن الخطر كل الخطر هو أن نغفل عن أن الإنسان -بكل ضعفه وجماله- هو الغاية وليس الوسيلة

نحو اقتصاد إنساني أكثر من مجرد رقمي

إذا أردنا فعلًا بناء مستقبل مستدام، فعلينا أن نعيد الاعتبار للإنسان لا كعامل إنتاج فقط، بل كذات كاملة تحتاج إلى التقدير، والحوار، والإبداع، والأمل.. فكما أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل من دون الكهرباء، فإن الاقتصاد لا يعمل من دون إنسان يثق بنفسه وبقدرته على التغيير.

إعلان

إن التحول الرقمي يجب أن يكون فرصة لتمكين الإنسان، لا لتحويله إلى رقم إضافي في قاعدة بيانات.. علينا أن نُعيد صياغة مفهوم النجاح داخل المؤسسات: ليس فقط بتحقيق الأرباح، بل ببناء بيئة تُشجّع على التعاون والتعلم والمساءلة.

الإنسان أولًا.. ثم الذكاء

التقدّم الرقمي قادم لا محالة، وهذا جيد.. لكن الخطر كل الخطر هو أن نغفل عن أن الإنسان -بكل ضعفه وجماله- هو الغاية وليس الوسيلة. علينا أن نُعلم أبناءنا أن يتقنوا استخدام الأدوات، نعم، لكن الأهم أن يظلوا بشرًا في عالم يغريهم بالتحول إلى آلات.

المستقبل الحقيقي ليس للذكاء الاصطناعي، بل للذكاء الإنساني الذي يُحسن التفاعل مع هذا الذكاء الجديد.. ويُبقي القلب نابضًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان