ماذا لو أننا في حياتنا الحديثة نعاني مشكلة تواصل، رغم أننا "أونلاين" طوال الوقت تقريبًا، منفتحون لتبادل الرسائل والاتصالات، نقيم علاقات افتراضية، نوزع الرسائل والتعليقات هنا وهناك، نتشارك كل لحظة تقريبًا بالصوت والصورة مع الآخرين؟!
المفاجأة أننا مع كل هذا التواصل المفرط تزداد علاقاتنا هشاشةً وضعفًا، ونعاني لكي نقيم روابط حقيقية متينة فيما بيننا، أو نفشل في الحفاظ عليها إن وجدت!
فهل التواصل الافتراضي يقربنا فعلًا بعضَنا من بعض، ويحسن جودة علاقاتنا؟ أم الواقع هو العكس؟!
التواصل الحقيقي يحمل دلالتين؛ دلالة مباشرة، وهي موضوع ذلك التواصل، ودلالة عميقة، وهي المشاعر التي تترجم هذا التواصل، وتلك المشاعر تنتقل بلغة الكلام وبلغة الجسد، بالحديث وبالصمت أيضًا
ماذا يحدث حينما أراك وجهًا لوجه؟
أعلم أنك من كثرة التواصل عبر الشاشات، نسيت أهمية التواصل الحقيقي وجهًا لوجه، وربما لم تعد ترى فارقًا بين التواصل الحقيقي والتواصل الافتراضي! ولأننا في زمن فقدان البديهيات، فدعني أبدأ بأكثر الأسئلة بديهية: ما هو التواصل الحقيقي؟
التواصل الحقيقي هو تفاعل بين البشر، يرافقه تبادل للمشاعر بين شخصين أو أكثر، وتلك المشاعر المتبادلة تضفي على التواصل معنى عميقًا، يتخطى موضوع التواصل، ويتعمق نحو المضمون؛ حيث المعاني والدلالات الأكثر تأثيرًا.. وهذا لا يكون إلا عبر التواصل بكل حواس الجسد.
فالتواصل الحقيقي يحمل دلالتين؛ دلالة مباشرة، وهي موضوع ذلك التواصل، ودلالة عميقة، وهي المشاعر التي تترجم هذا التواصل، وتلك المشاعر تنتقل بلغة الكلام وبلغة الجسد، بالحديث وبالصمت أيضًا، فيصبح لكل شيء معنى، حتى المحيط الخارجي.. الطقس، وتغريد الطيور، وخفقان الهواء، كل هذا يتشارك في تعزيز التفاهم، ويعطي الفرصة لظهور مساحات من العفوية، تخلق جوًا حميميًّا مفاجئًا، يكشف عن ما نحمله من مشاعر حقيقية.
فالإنسان كثيرًا ما يعاني في قول ما يريده، تحديدًا إذا كان الحديث عن شعور داخلي أو رغبات معقدة، وهنا يمكن لابتسامة أن تحل المعضلة، وتحمل المعنى بسرعة البرق للآخر! كما يمكن لاهتمام حقيقي مفاجئ يبدو في رد فعل بسيط أن يقلب الموازين، ويُحدث أثرًا هائلًا.
تخيل معي زوجين غاضبين، يتشاجران في السيارة بسبب خلافٍ ما وقع توًّا، وهذا الخلاف أخذ في رأسيهما طابعًا أبديًّا بشكل مخادع ومضلل؛ فالزوجة تفكر في أن شريكها لا يأبه بها إطلاقًا، والرجل يكاد يجزم أن شريكته لم تقدّر مجهوداته يومًا واحدًا. وأثناء هذا الحديث المحتدم، تمر نسمة هواء باردة، فتشعر الزوجة بالبرد، تلمس أكتافها وتنكمش في ثيابها، ودون تفكير يقطع الرجل حديثه، يمد يده ويغلق زجاج نافذتها.. وفجأة تشعر الزوجة بالدفء، والامتنان، وهذه المشاعر الإيجابية المفاجئة تقطع حبل الهواجس، وتخفف التوتر فورًا، وحينما تختفي الهواجس والخواطر المضللة، يعود الخلاف لحجمه الطبيعي! فأي دلالة عظيمة تلك التي تحملها الأفعال البسيطة، حينما ترد على شكوكنا وهواجسنا، وتلجم ثورة القلق في دواخلنا!
لذلك، جوهر التواصل الحقيقي يكمن في أنه لا يعتمد فقط على الحديث، بل على السلوك والتفاعل الجسدي، وردات الفعل العفوية. فالتواصل الحقيقي لا يقتصر فقط على تواصل الناس مع بعضهم عبر الكلام المباشر، بل يشمل التواصل كذلك مع الجو المحيط والطبيعة والأشياء والأحداث، مع سلوك البشر، ومفاجآت الحياة، هو انفتاح يتيح كشف الذات للآخر، في زمن يسعى الناس فيه بشكل مهووس لدفن ذواتهم وخلق ذات جديدة لامعة ومتألقة وزائفة للغاية.
وفي هذا الصدد يقول دانييل فرينجز في كتاب "علم النفس الاجتماعي": "إن المستويات المناسبة من كشف الذات يمكن أن تولد الثقة والحميمية في العلاقات". ويرى الكاتب أن كشف الذات من أهم عوامل استدامة العلاقات وتعميقها.
الإفراط في العقلنة هو من صور إخفاء الذات؛ حيث يظهر الإنسان بالمظهر الذي يختار أن يراه الآخر به، لا بحقيقته العفوية، وهنا تظهر أزمة أمام العلاقات المعتمدة على التواصل الافتراضي بشكل مبالغ فيه
التواصل الافتراضي.. عكس ما سبق!
أما التواصل الافتراضي فعادة ما يكون مختصرًا للغاية، سطحيًّا، يرتكز على موضوع محدد، ولا يتطرق إلى موضوعات أخرى بشكل عفوي وحر. ينتقي الفرد كل كلمة بدقة بالغة، في عملية عقلانية دقيقة من الحذف والتنقية، حتى تصل لمبتغاها بسرعة، وتحقق هدف التواصل بوضوح واختصار.
وبهذا يعتمد التواصل الافتراضي على العقلنة المفرطة، فتختفي المشاعر من هذا النوع من التواصل، بل تصبح قابلة للتلاعب بها، وإيصال مشاعر مزيفة عبر عملية انتقاء الكلمات واختصارها، وهو ما يناقض طبيعتنا الإنسانية المركبة، والتي لا يمكن اختزالها وتبسيطها في كلمات قليلة، لا سيما في تلك العلاقات التي تقوم أصلًا على المشاعر العميقة، كالحب!
ولهذا بات التواصل الافتراضي منفذًا يحقق متطلبات العلاقات ما بعد الحداثية؛ تلك العلاقات التي يصفها راينر فونك في كتاب "اﻷنا والنحن.. التحليل النفسي لإنسان ما بعد الحداثة" قائلًا: "لا يهتم الإنسان ما بعد الحداثي بالعلاقة في حد ذاتها، التي تتمثل في الارتباط العاطفي، وما يرافق ذلك من مشاعر الاشتياق إلى الآخرين في غيابهم، والاهتمام بهم في حضورهم، والولاء لهم، بل فقط باتصالات لحظوية لقضاء غرض ما، سواء كان ماديًّا أم معنويًّا".
فكل طرق بناء وعيش العلاقات المتعارف عليها -كإشعار الآخر بالمحادثة، عبر الاقتراب منه، ولمسه، والبحث عن تبادل النظرات، وتوفير إمكانية ليعبر الآخر عن مشاعره، والانشغال معًا بشيء ما، واقتسام الحلو والمر.. إلخ، غير صالحة في مثل هذا النوع من العلاقات. ولهذا تجد العلاقات الحداثية نفسها في بيتها في التواصل الافتراضي!
التواصل الافتراضي إخفاء للذات
الإفراط في العقلنة هو من صور إخفاء الذات؛ حيث يظهر الإنسان بالمظهر الذي يختار أن يراه الآخر به، لا بحقيقته العفوية، وهنا تظهر أزمة أمام العلاقات المعتمدة على التواصل الافتراضي بشكل مبالغ فيه، إذ إن أهم العوامل التي تساعد على استقرار العلاقات واستدامتها هو "كشف الذات" بمستوى مناسب، مثلما ذكرنا في الأعلى، لا دفن الذات خلف كلمات شحيحة منتقاة بعناية تعكس ربما معانيَ مضللة. ذلك ليس فقط مجرد إخفاء للذات بشكل معنوي، بل إخفاء للجسد بكليته! فحينما يكون التواصل خلف الشاشات فقط، تختفي لغة الجسد تمامًا مع إلغاء ضرورة الوجود الجسدي لإتمام التواصل، وتستبدل بها مجموعة واسعة من الـ emojis تُختار بوعي فائق وبدقة شديدة، لتكون بديلًا عن تعابير الوجه العفوية، والتي تقول ما لا يقال، وتكشف ما يراد إخفاؤه.
يقول دانييل فرينجز في كتاب "علم النفس الاجتماعي": "نحن نتواصل ليس فقط من خلال الحديث، ولكن من خلال طرق أخرى عديدة، والأشكال غير اللفظية من التواصل هي جزء مهم من تفاعلات حياتنا الاجتماعية اليومية، والتي تساعد على توضيح ما نعنيه عندما نتحدث، وتنقل قدرًا كبيرًا من المعلومات حتى لو لم نقدمها نحن بشكل مباشر في حديثنا".
كلما أخفينا مشاعرنا العفوية تعقدت حياتنا أكثر، وزادت الهوة بين ما نشعر به ونخفيه، وبين ما نقوم به ونُظهره، وهو ما يزيدنا تعاسة!
لا مكان للصمت!
الصمت يقول الكثير.. أكثر مما تقوله الكلمات؛ فحينما نصمت تظهر الحقيقة، وتبدو الأمور أوضح! في التواصل وجهًا لوجه لا يمكن تفادي فترات الصمت، تلك التي تظهر فجأة، وتلقي بظلها على أي حديث مهما بدا حيويًّا لا ينقطع! في تلك الفترات، ترى الأمور بوجهها الحقيقي، فتسمع صوتك الداخلي يقول: آه، يا لها من أمسية رائعة.. وجدت ما أبحث عنه! ما هذا الملل!
وهي أيضًا فترات جوهرية تتبدى فيها الحقائق، وتمسَك فيها الخيوط، وترى فيها الأمور بشكل أوضح، قبل أن يعود تدفق الحديث مجددًا. وأيضًا، في الصمت ترى الآخر، أقصد هذا الآخر الذي لا تقوله الكلمات، ففي الصمت تتكلم لغة الجسد بشكل صاخب، ويصبح للتنهيدة معنىً، وتقول تعابير الوجه ما لا يمكن شرحه بالكلام.
يقول إرلنغ كيج في كتابه عن الصمت: "إن لم يفهمك شريكك حين تصمت، ألن يكون أصعب عليه أن يفهمك حين تتحدث؟".. وللأسف، لا وجود لفترات الصمت في التواصل الافتراضي! فبمجرد توقف تدفق المحادثات، يتحول الناس بضغطة زر واحدة لأمر آخر، تغلَق نوافذ الاتصال، وتُشغل الأوقات البينية بين رسالة وأخرى، وبين اتصال هاتفي وآخر، بالتصفح والمشاهدة والدخول في دوامات لا متناهية من عوالم افتراضية، تشتت العقل، وتخدر مركز الإحساس بالمشكلات، فلا يكون هناك مساحة لرؤية الآخر والإحساس به كائنًا حيًّا له وجود مادي ومعنوي.
فإذا كان التعبير المتاح فقط هو عبر الكلمات والرسائل القصيرة، والـ Voice notes المقتضبة، والتي يُعاد تسجيلها عدة مرات فتُنتزع منها عفوية الحديث وتلقائية الرد، فلا مكان للمشاعر في العلاقات الحديثة التي ترتكز بشكل كامل على التواصل الافتراضي!
كيف يمكن أن نستعيد إنسانيتنا من الآلة، ونعيد الأمور لنصابها؛ حيث الآلات وسائل تستخدم لتحقيق أهداف مشروعة، لا أسلوب لعيش حياة بديلة عن الحياة الواقعية؟
وكلما أخفينا مشاعرنا العفوية تعقدت حياتنا أكثر، وزادت الهوة بين ما نشعر به ونخفيه، وبين ما نقوم به ونُظهره، وهو ما يزيدنا تعاسة!
يصف عالم الاجتماع زيجمونت باومان، في إيجاز مدهش، العلاقة الجدلية التي تربط الإنسان الحديث بهاتفه فيقول: "إن الذين يعيشون بعيدًا عن بعضهم تمكِّنهم الهواتف النقالة من التواصل، ومن يتواصلون تمكنهم الهواتف النقالة من الابتعاد عن بعضهم".. لذلك، التواصل الافتراضي لا ينتج عنه ترابط حقيقي، يظل اتصالًا ضحلًا للغاية، تغرينا سهولته وتجذبنا خفة حدوثه وسرعة تلاشي أثره، فهو قابل للذوبان والاختفاء كأنه لم يحدث! والاتصال أقل كلفة من الارتباط؛ لأنه لا يكلفنا الانتباه الكامل، أو مشاركة المشاعر، بل يعزز الفردانية الحديثة، حيث التمحور حول ذواتنا، ورؤية الآخر وسيلة لتحقيق أهوائنا فقط!
الاتصال لا يكلفنا شيئًا، ويعدُنا بتحقيق كل شيء، مثل السعادة الفورية والمنفعة السريعة! ولكن لا تُبنى العلاقات الحقيقية على مجرد اتصال ضحل، يعززه التواصل الافتراضي المحموم بالعقلانية والنتائج السريعة، ويظل دائمًا مهددًا بالتلاشي، كأنه أثر بعد عين!
برأيك، كيف يمكن أن نستعيد إنسانيتنا من الآلة، ونعيد الأمور لنصابها؛ حيث الآلات وسائل تستخدم لتحقيق أهداف مشروعة، لا أسلوب لعيش حياة بديلة عن الحياة الواقعية؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.