وسط أصوات القصف والغارات، وبين الركام وأصداء صرخات الضحايا من الأطفال والنساء، تتكشف كل لحظة فصول جديدة من المأساة الإنسانية والكارثة التي يشهدها قطاع غزة.. الاحتلال الإسرائيلي ماضٍ في تصعيده الدموي، مستهدفًا كل مظاهر الحياة، دون رادع يوقف حربه المستمرة للإبادة الجماعية.
في جنوبي وشمالي قطاع غزة، سُجلت أبشع الجرائم بحق الغزيين والمرضى والكوادر الطبية والصحفيين، حيث تحولت أماكن عديدة إلى ساحة حرب بفعل الغارات الجوية والقصف المدفعي المكثف، بهدف إفراغ القطاع من سكانه ودفعهم نحو النزوح والتهجير.
صُنّف 93% من السكان ضمن المرحلتين الثالثة والخامسة من أصل خمس مراحل تحدد مستويات انعدام الأمن الغذائي. ويُقدّر أن 244 ألف شخص (12%) يعيشون في المرحلة الخامسة، وهي حالة مجاعة كارثية
في ظل هذه الظروف، كانت منظمة "المطبخ المركزي العالمي"، التي تقدم وجبات الطعام لسكان غزة منذ بداية الأزمة، قد أعلنت توقفها عن طهي وجبات جديدة بسبب نفاد الإمدادات الغذائية والوقود.
وأكدت المنظمة أنها قدمت في غزة خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية أكثر من 130 مليون وجبة و26 مليون رغيف خبز، إلا أن حصار الاحتلال حال دون استمرار هذه الخدمة.
وصحيح أن بعض المخابز في جنوبي القطاع قد عادت في الأيام الأخيرة لإنتاج الخبز وتوزيعه بعد وصول عدد من شاحنات المساعدات، وعادت بعض المنظمات لتقديم الوجبات بعد أن أعلنت سابقًا عن توقفها عن الخدمة، إلا أن المتوفر من الإمدادات الغذائية يبقى أقل بكثير من الاحتياجات.
تتزامن هذه الأزمة الكارثية مع تحذيرات من وكالات الأمم المتحدة، مثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، من أن قطاع غزة يواجه مجاعة وشيكة.
ويعزى ذلك إلى استمرار الحصار الشامل الذي يفرضه الاحتلال، وحرمان السكان من الغذاء والمياه والرعاية الصحية. وقد ورد ذلك في تقرير جديد بعنوان "التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي"، أظهر أن جميع سكان غزة -البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة- يواجهون انعدامًا حادًّا في الأمن الغذائي، في وضع لا مثيل له في أي سياق إنساني آخر في العالم اليوم.
وفقًا للتقرير، صُنّف 93% من السكان ضمن المرحلتين الثالثة والخامسة من أصل خمس مراحل تحدد مستويات انعدام الأمن الغذائي. ويُقدّر أن 244 ألف شخص (12%) يعيشون في المرحلة الخامسة، وهي حالة مجاعة كارثية. بالإضافة إلى ذلك، يعاني 925 ألف شخص (44%) من حالة طوارئ غذائية، بينما يواجه الباقون أزمة غذائية حادة.
أوضحت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) أن نحو 75% من أراضي غزة الزراعية دُمرت بسبب العمليات العسكرية منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كما تضرر ثلثا آبار المياه الزراعية، ما أدى إلى انهيار شبه كامل في إنتاج الغذاء المحلي
وكشفت بيانات الأمم المتحدة أن حوالي 470 ألف شخص يعانون حاليًّا من مجاعة فعلية، وأن 71 ألف طفل و17 ألف أم بحاجة إلى علاج فوري من سوء التغذية الحاد. وتشير التقديرات إلى أن 60 ألف طفل إضافي يحتاجون إلى علاج مباشر منذ بداية عام 2025.
وتوقعت الوكالات أيضًا استمرار تدهور الوضع الغذائي بين شهري مايو/ أيار وسبتمبر/ أيلول 2025، دون أي تحسن متوقع، مع بقاء جميع السكان في حالة أزمة غذائية أو أسوأ.
وأوضحت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) أن نحو 75% من أراضي غزة الزراعية دُمرت بسبب العمليات العسكرية منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كما تضرر ثلثا آبار المياه الزراعية، ما أدى إلى انهيار شبه كامل في إنتاج الغذاء المحلي.
وعلى الرغم من توزيع أكثر من 2.100 طن من الأعلاف والمستلزمات البيطرية، فإن هذه الإمدادات لا تزال غير كافية. وتقدر المنظمة أن ما يقرب من 20% إلى 30% من الثروة الحيوانية معرض للنفوق في حال استمر منع دخول المستلزمات البيطرية والرعاية اللازمة.
ووفقًا للتقرير، هناك أكثر من 116 ألف طن من المساعدات الغذائية متوقفة على المعابر، دون السماح بدخولها، علمًا بأنها تكفي لإطعام حوالي مليون شخص لمدة أربعة أشهر. وفي الوقت نفسه، نفدت جميع مخزونات الغذاء في القطاع وشهدت تراجعًا حادًّا، وقد أغلقت جميع المخابز المدعومة أبوابها؛ بسبب نفاد مخزون دقيق القمح ووقود الطهي منذ أواخر شهر أبريل/ نيسان.
في ظل هذا الصمت العربي وهذا التواطؤ الدولي، يقف الفلسطينيون في غزة وحدهم في مواجهة آلة القتل والحصار، لكن صمودهم يبقى شاهدًا على عار الصامتين والمتآمرين
وأكدت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، سيندي ماكين، أن "عائلات بأكملها تتضور جوعًا، بينما المساعدات متوقفة على الأبواب"، وأضافت أن "المجاعة لا تحدث فجأة، بل تتشكل عندما يُمنع الناس من الحصول على الغذاء والرعاية".
وشددت كاثرين راسل، مديرة منظمة اليونيسيف، على أن الجوع وسوء التغذية "أصبحا حقيقة يومية لأطفال غزة"، داعيةً إلى تحرك دولي فوري لمنع وقوع كارثة أكبر.
وأكدت الوكالات الأممية أن استمرار منع دخول المساعدات يُعد انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني، وخاصةً اتفاقيات جنيف التي تُلزم أطراف النزاع بتأمين وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين، وتحظر استخدام التجويع كسلاح في الحرب.
ووفقًا لتعريف "المجاعة" في القانون الدولي، يُعتبر التجويع المتعمد للسكان المدنيين جريمة حرب، بل ويُمكن تصنيفه ضمن جرائم الإبادة الجماعية إذا رافقه حرمان ممنهج من سبل الحياة الأساسية، وهو ما تؤكده مؤشرات التقرير الأممي.
بيدَ أن هذه التحذيرات لم تجد أي استجابة عملية من المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية والحقوقية، ولا من الحكام العرب، الذين يكتفون بتصريحات باهتة ومواقف شكلية، تاركين غزة تواجه مصيرها وحيدة.
في ظل هذا الصمت العربي وهذا التواطؤ الدولي، يقف الفلسطينيون في غزة وحدهم في مواجهة آلة القتل والحصار، لكن صمودهم يبقى شاهدًا على عار الصامتين والمتآمرين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.