شعار قسم مدونات

المثقف العربي بين التبعية والتأسيس: أزمة الوعي الثقافي العربي

Speaker delivering a presentation to a large audience at a business conference in a modern venue. Engaged attendees listen attentively.
الكاتب: كيف يمكن توصيف المثقفين العرب؟ وكيف يمكن تقسيمهم وتقسيم خطابهم؟ (شترستوك)

لما رست مع العولمة الجديدة أطر الواقع السائل، ومضت سيولة باومان في تشكلاتها النهائية لتصبح سائلة أكثر من أصلها، ومضت صراعات البشرية في الانحدار القيمي الكمي والكيفي، بأبعادها السيكولوجية الروحية والاجتماعية المادية، بات واضحًا وجليًا جدًا أن التخلف الثقافي ظاهرة مصطنعة كجزءٍ من مخطط للتقدم، لا كأصل فكري أكاديمي له أطر معرفية وقياسية، وبات اتّهام أمة بالتخلّف والانحطاط أسلوبًا سياسيَّ الأبعاد وغير واضح المعالم، لا أصلًا فكري الأواصر.

المشهد من بعد تسعينيات القرن الماضي (تقريبًا) بات ميَّالًا إلى التناطح في المصالح، أقرب منه إلى الاختلاف في مراتب التفسير، ومع إهمالٍ كبيرٍ لمبادئ النقد واحترام المخالف

إن في قراءة الثقافات المتناطحة (وتلك المُغايرة) شيئًا من الالتفاف حول العشوائية (أو الاستقامة الظنّية) في تفسيرها ومَنْهَجَتها، ولا يناضل ولا ينزاح حتى إلى شيءٍ من المُراد المقصود، ومع تداخل الخطاب المدني (العلماني) تِباعًا في الفكر العربي الدارج، وفي حديث الشارع العام (على سبيل المثال المحلي)، بات إمساك مجال البوصلة صعبًا جدًا، ومع هذا كل المصائب على الصعد الأخرى.

عندما تأخذ أمة الأسوة في فرض هيمنتها بمبادئها، يجب عدم اعتماد امتداداتها أصلًا على غيرها بالضرورة، وهذا مدعاة إلى إعادة رسم الأطر لمفاهيم المقارنة.

فعلى سبيل المثال سياسيًا، فإنك في قراءة المَاجَرَيَات السياسية (الحدث الخَبَري اليومي المُعَلَّب) والثقافية الغربية، تجد اختلافًا مضحكًا بين المفكرين العرب، ولست أقول مضحكًا للناحية الجغرافية العربية، فتناقض الطرح العربي الشرقي الشامي عن العربي المغاربي يبدو منطقيًا؛ لاختلاف العوامل وانقلابات التراث على مدار القرون المنصرمة الثمانية تحديدًا، وحتى تناقض الطرح الإسلامي فكرًا بين الأتراك وأهل الجزيرة مثلًا.

إعلان

ولكن المشهد من بعد تسعينيات القرن الماضي (تقريبًا) بات ميَّالًا إلى التناطح في المصالح، أقرب منه إلى الاختلاف في مراتب التفسير، ومع إهمالٍ كبيرٍ لمبادئ النقد واحترام المخالف.

وفي ذلك مثلًا قول لمحمد عابد الجابري، المفكر المغربي المعروف، في كتابه "التراث والحداثة.. دراسات ومناقشات" (مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، ص:293) لنرى علاقته وارتباطه بالمناهج الفكرية الفرنسية، وإسقاطها على قضايا فكرية إسلامية وعربية، وهذا رده على أحد زملائه، حيث رأى حضور الإبستمولوجيا الفرنسية في فكر الجابري: "الملاحظة التي أبداها أحد الزملاء حينما قال إن الإبستمولوجيا الفرنسية حاضرة أكثر فيما كتبت.. فعلًا، هذا صحيح، وهو راجعٌ إلى عدة أسباب، ذاتية وموضوعية، فأما الأسباب الذاتية فهي أننا في المغرب مرتبطون بالثقافة الفرنسية أكثر مما نحن مرتبطون بالثقافة الأنجلوسكسونية"، وهنا يعترف الجابري بذلك صراحةً.

لا يمكن بأي شكل من الأشكال الاحتكام إلى ثقافة لنقد أخرى من منظور أنها الغالبة، وهنا أقول "الاحتكام" لا المقارنة، فالمقارنة تنظر في المتشاركات وتمايزها، أما الاحتكام فهو "الإسقاط"، تمثيل ثقافة وتسييرها بمعايير ثقافة أخرى

وكمثال آخر واضح، المفكر والمؤرخ الجزائري محمد أركون يقول عن منهجه: "المنهجيات التي أطبقها على التراث العربي الإسلامي هي المنهجيات نفسها التي يطبقها علماء فرنسا على تراثهم اللاتيني المسيحي أو الأوروبي" (كتاب: الفكر الإسلامي.. نقد واجتهاد، دار الساقي للنشر، الطبعة السادسة، 2012م، ص:243)، ولكن من أين لأركون هذه الشجاعة لينطلق في أعماله وتفسيراته، وكأن منهجه صحيح أو سليم أو حتى صحّي فكريًا، وكذلك أقول في الجابري. وهذا -للتذكير- مجرد أمثلة، وذكرت هنا مثالين من المغرب العربي، إلا أن الأمثلة من الشرق أيضًا كثيرة جدًا، كفراس السواح وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وغيرهم الكثير، ولكن لا مجال للتعليق عليهم والإطالة، فأكتفي بهذا القَدْر لتصل الرسالة.

ولكن، ومع ما سبق، ما الذي يدعونا اليوم إلى إعادة طرح منهج هيكلي لـ"قضية المثقف العربي" مثلًا؟ كيف يمكن توصيف المثقفين العرب؟ وكيف يمكن تقسيمهم وتقسيم خطابهم؟ والأهم من هذا، كيف يمكن رسم قاعدة فكرية للشارع العام، وفقًا للجغرافيا المقسمة أصلًا قبل فكرها؟ علينا أن نفهم أن هذا كله ينبع من فكرة الاهتمام بالأصل قبل الفرع، وبالمهم قبل التافه، وخصوصًا للنخبة المثقفة في المجتمع، والتي يحاكَم بُعْدُ عصر المجتمع الحالي عن أصول أفكارها وتياراتها، وهذا يمكن أن يكون موضوعًا مهمًا لمقالٍ أو كتابٍ منفصل للمهتمين في البحث، ورغم ارتباطه بموضوعنا فإنني أكتفي بالذكر لوسع ما قد يطرح فيه، وأتركه للباحثين.

إعلان

لا يمكن بأي شكل من الأشكال الاحتكام إلى ثقافة لنقد أخرى من منظور أنها الغالبة، وهنا أقول "الاحتكام" لا المقارنة، فالمقارنة تنظر في المتشاركات وتمايزها، أما الاحتكام فهو "الإسقاط"، تمثيل ثقافة وتسييرها بمعايير ثقافة أخرى، وهذا باطل لأسباب عديدة واضحة، كالزمان والمكان والحالة الاجتماعية، والنطاق التاريخي وحتى الجغرافي والاقتصادي.

إن عدم اهتمامنا بأصول المسائل وقضايانا الأساسية ذات الأولوية القصوى، والتفاتنا إلى القشور، وقشور القشور مما لا يُفيدُ حقيقةً، رمانا في وحول اليأس والخيبة التي ظنناها نتيجة، وظننا سببها ما نحمله من تراث وفكر، وأصول ومنهجيات

لا أريد أن يفهم كلامي على أنني أدعو إلى انغلاق الثقافات على بعضها، لا وألف لا.. فذلك مهم، وإنما أدعو للتفريق بين مسألتين مختلفتين مع بعض نقاط التشابك: مسألة الاستماع للآخر (سواء أكان الغالب ثقافيًا أم لم يكن)، وبين الأصل الفكري والثقافي والاجتماعي الذي تطرحه أنت في مخاطبته أو حين الرد عليه، والذي تعيشه أنت في حضارتك ومجتمعك. ونقاط التشابك بينهما تكمن في مقدار التشاركية ومقدار المسموح من التبادل الثقافي الذي أنت تحدده قبل الحوار مع الآخر، وأنا هنا لا أقصد حوار الأفراد مع بعضهم بالضرورة، وإنما أقصد حوار الحضارات والثقافات، ومقدار أخذك من المقابل، معتمدًا -طبعًا- على مدى تمسكك وإيمانك بما لديك.

إن عدم اهتمامنا بأصول المسائل وقضايانا الأساسية ذات الأولوية القصوى، والتفاتنا إلى القشور، وقشور القشور مما لا يُفيدُ حقيقةً، رمانا في وحول اليأس والخيبة التي ظنناها نتيجة، وظننا سببها ما نحمله من تراث وفكر، وأصول ومنهجيات، ونحن في الواقع لم نتطرق لها، وألجأَنا ذلك إلى ثقافة غيرنا كما ذكرت، بالرغم من تناقض الطرح بين نسيج الثقافات المختلفة كثيرًا، وغالبًا عدم اهتمامنا بأصول الفكر التي لدينا، وبين تاريخٍ طويلٍ نحمله إرثًا ثقافيًا وحضاريًا عمَّنْ سبقونا.. فكيف كان لنا أن نجهلهم بهذه السهولة؟ وإلى أيِّ حدٍ من النقص وصلنا؟ وما العمل؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان