شعار قسم مدونات

التقارب الأميركي الإيراني بحكمة عُمانية

blogs علم أمريكا وإيران
الكاتب: بلغ الخلاف الأميركي الإيراني ذروته بتعميق العقوبات جراء الملف النووي الذي يأتي قويًّا في أجندات البيت الأبيض (رويترز)

في أربعينيات القرن التاسع عشر، وخلال حكم السلطان سعيد بن سلطان (حاكم عُمان وزنجبار آنذاك)، كانت السفينة "سلطانة" تمخر العباب لترسو في ميناء نيويورك بعد رحلة استغرقت 87 يومًا، معلنة عن وصول أحمد بن نعمان الكعبي (1840) كأول سفير عربي ومسلم إلى أميركا.

حملت "سلطانة" رسائل عديدة، وأظهرت مكانة عُمان البحرية والدبلوماسية، ومن بين ما حملته: القهوة اليمنية، والسجاد الفارسي، والتمور العُمانية، والخيول العربية، والقرنفل "الزنجباري".. ذلك التمازج في السلع والهدايا يستحضر التاريخ في أحداث العالم الراهن، ويدفع برمزية التوافق والدور الدبلوماسي العُماني الذي يتجسد مع أحفاده.

تلك التجربة المتشبعة بقيم التبادل والاعتدال السياسي لم تكن حادثة بروتوكولية عابرة، بل كانت عمقًا ينحدر منه المجتمع العماني في تماسه مع التوجه السياسي، والمتماثل مع الموقف الديني في تعزيز لغة الحوار لمصلحة الشعوب.

سلطنة عُمان -بتاريخها العميق وبعدها الحضاري- متكأ للعالم، ينطلق من بوابة الخليج إلى مفصل القرار، ويشكّل ملامح التقارب الأميركي الإيراني، ويوجه بوصلة ومآلات الحلحلة اليمنية، التي تكون -بلا أدنى شك- فاتحة لملفات أخرى

العالم إلى أين؟

يعيش العالم اليوم في ظل صراعات وتصدّعات وأطماع، تقودها المساومة على قيمة الإنسان بقوة المال وسطوته، التي استحكمت على كل المفاصل، وبان الجشع على مصراعيه: مصراع السيطرة التي نهشت في القيم الإنسانية، ومصراع الغزو والاحتلال على حساب الحرية.

إعلان

فالحرية وحق الاختيار ابتعدا بمقادير نيل فتات الخبز للحصول على أدنى الاحتياجات والأساسيات، والصراع احتدم وفق المصالح ذات القطب الواحد، والعالم وفق التقسيمات الجيوسياسية لم يستطع فتح نوافذ الحوار، وبسط "سجادة" التقارب، وحلحلة الخلافات التي فرضتها الهيمنة الكبرى.

ومع تعاظم الشر يبرز وميض التوافق في بقعة تجمع شتات التباين الإنساني المقيت، وتبرهن للعالم أن الحل يسطع في أول بقعة تشرق عليها الشمس.. سلطنة عُمان التي طالما كانت البوابة التي تحل العقد السياسية، وتجمع "الشتيتين" -إن جاز لنا التعبير- على وفاق واحد، أو طاولة تكون منطلقًا للحوار الحقيقي.

سلطنة عُمان -بتاريخها العميق وبعدها الحضاري- متكأ للعالم، ينطلق من بوابة الخليج إلى مفصل القرار، ويشكّل ملامح التقارب الأميركي الإيراني، ويوجه بوصلة ومآلات الحلحلة اليمنية، التي تكون -بلا أدنى شك- فاتحة لملفات أخرى.

لا يختلف اثنان على أن سلطنة عُمان ستظل العمود الثابت الذي تهوي إليه أفئدة مختلفة، فهي تتمتع بقدرة نادرة في العالم بامتلاكها زمام ومفاتيح الحديث مع الجميع، دون تكلف أو مصلحة، فهي الوسيط الذي يعلو طوعًا لا كراهية، وبرغبة لا بفرض

لماذا سلطنة عُمان؟

لأنها صوت الحكمة الذي يسترسل بهدوئه كبحرها المترامي.. ولأنها وجه العقل الذي يمسك عصا الشقاق من منتصفها.. ولأنها ظل العدل في رمضاء ورمال السياسة المتقلبة.. ولأنها بصيص رجاء يتسع بمقدار اتساع القلوب بمقاييس العقول.. فهي مهبط العواصم التي تتقاطر إليها حينما تعجز "الكنانة" عن احتواء السهام.

إن التشكّل السياسي المتباين لا يضع البعد التاريخي للنزاعات في حيز التوافق أو بوصلة الالتقاء، لذلك كانت الأبواب مؤصدة عند من أخذته العزة بالإثم، إلا أن باب "مسقط" الكبير يظل مواربًا يلج منه المختلفون، فتنبثق منه ملامح تسوية وحوار يكسر عزلة التشتت.

تستند سلطنة عُمان في توازناتها السياسية إلى عمقين: أولهما العمق التاريخي الحضاري، الذي أثبت أنها إمبراطورية عمرها آلاف السنين، امتدت إلى سواحل الهند شرقًا وسواحل أفريقيا غربًا، تمازجت مع مختلف الحضارات، وشكّلت مبادئ احترام الخصوصية والتنوع، ولم تركن إلى التصادم.

إعلان

أما ثانيهما: فهو الحياد الإيجابي لعُمان التي اعتقد كثيرون أنها منعزلة عن العالم، والحق أنها هي من عزلت نفسها عن بؤر الخلاف المصطنعة، وآمنت بفلسفة عدم التدخل في شؤون الغير، وأتقنت فن الموازنة بين الأطراف المتنازعة، دون انحياز أو تأجيج للفتن والصراعات، وتمسكت بقيم التسامح ومتطلبات الانفتاح المعتدل، وتعاملت بحسن الجوار.

فلا يختلف اثنان على أن سلطنة عُمان ستظل العمود الثابت الذي تهوي إليه أفئدة مختلفة، فهي تتمتع بقدرة نادرة في العالم بامتلاكها زمام ومفاتيح الحديث مع الجميع، دون تكلف أو مصلحة، فهي الوسيط الذي يعلو طوعًا لا كراهية، وبرغبة لا بفرض.

إن الإرث الدبلوماسي الذي تشكّل مع السمت العُماني لم يكن وليد لحظة خاطفة، أو غاية تبررها وسيلة آنية، بل هو مسارٌ يتجلى منذ القدم بجذور متينة، خاصة في علاقتها بالعالم على وجه العموم، والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص.

من الصين إلى الهند، وإلى بلاد فارس وشرقي أفريقيا، شهدت العلاقات التجارية والدبلوماسية تماسكًا واحترامًا، فكانت موانئ صور وصحار ومطرح أيقونة بحرية، توثق روابط القربى وتطلق وشائج السلام على نهج حكيم.

على الرغم من أن الحسابات تشهد تعقيدًا تصادميًّا، فإن الموقف العُماني المبني على الحياد يشكّل عازلًا للتوتر في منطقة الخليج، وهو صمام أمان لإعادة مجريات الحوار إلى نسقها السياسي والدبلوماسي

ملف البرنامج النووي الإيراني

لقد بلغ الخلاف الأميركي الإيراني ذروته بتعميق العقوبات جراء الملف النووي، الذي يأتي قويًّا في أجندات البيت الأبيض، إلا أن الحلول سرعان ما تتبخر وتتسع فجوة الخلاف، فيُوأَد قبل بدايته، وتعلَّق عليه شمّاعات كثيرة يستعصي فهمها وحلها لتتحمل الشعوب نتائجها، خاصة في الداخل الإيراني.

بحكم الجغرافيا السياسية الملتهبة، والتي باتت على صفيح حرب واسعة، ها هي واشنطن تتجه إلى مسقط من أجل تمهيد الطريق الوعر نحو طهران، للوقوف على متطلبات الملف النووي الإيراني، ومنها إلى مباحثات وقف إطلاق النار في اليمن، لذلك لم تكن سلطنة عُمان محطة عبور (ترانزيت)، بل صانعة مناخات وموفرة للضمانات مع مختلف الأطراف.

إعلان

على الرغم من أن الحسابات تشهد تعقيدًا تصادميًّا، فإن الموقف العُماني المبني على الحياد يشكّل عازلًا للتوتر في منطقة الخليج، وهو صمام أمان لإعادة مجريات الحوار إلى نسقها السياسي والدبلوماسي، وفتح المسامات التي صدئِت جراء تصاعد الأزمات في الوطن العربي.

إن الانفتاح الذي وعدت به واشنطن للوصول إلى طرق أخرى للتسوية في هذا الملف، بعد تأكيدها على تفكيك البرنامج، يضع طهران في موضع الانخراط في المحادثات، مع غض الطرف عن تعزيز الدعاية العدائية الدائمة من قبل واشنطن، من أجل التوصل إلى اتفاق دون إكراه أو تلويح بالقوة.

تعد الحالة العُمانية حالة متفردة في الجغرافيا العربية، متمثلة في الحضارة والتسامح الديني، والنموذج الفاعل في خارطة التوازنات السياسية العالمية؛ وبالتالي فإن الثقة الدولية تدفع بتحولها إلى قوة ناعمة، تعزز الهوية والخصوصية العُمانية

أبعاد الوساطة العمانية

تتجلى الوساطة العُمانية في أبعادها في اتجاهين: اتجاه خارجي يعيش على صفيح ثائر تتقاطع حوله المصالح، وتتغير به المواقف، فمن إبادة غزة إلى فزعة اليمن، ومن جراح الشام النازف إلى تأزم عُقد العراق، ومن الاختلال والاختلاف في السودان إلى خليج يعيد صياغة توازناته لتتوافق مع المتغيرات العالمية.

لذلك فإن نجاح سلطنة عُمان في سياق الحوار لا يتوقف في إطار الملف النووي فقط، بل يجنّب المنطقة مواجهات مفتوحة تستهدف المصالح الأميركية، ويكون الحل بدون طائرات أو تهديدات، لأن صوت مسقط مسموع وهي تنصت للجميع.

أما الاتجاه الثاني فيتجلى في المكاسب المتوقعة في الداخل العُماني، إذ إن العوائد ستخدم التوجه الاقتصادي عبر التوسع في جذب الاستثمار، والتأكيد على ثوابت الثقة لفتح ممرات جديدة للعبور التجاري عبر شبكة الموانئ الإستراتيجية، وهذا من المؤكد أن ينعكس في البعد الاجتماعي، بدءًا من توليد فرص العمل، وانسجامًا مع الشعور بالكرامة والقوة بتأثير سلطنة عُمان في الميزان العالمي.

كما يتماهى التوجه الديني مع المواقف الرسمية لسلطنة عُمان، فإن الحالة العُمانية تشهد انسجامًا قيميًّا باعتبارها سندًا يُذكّر بثوابت الأمة، وذلك عبر خطاب المفتي العام لسلطنة عُمان، الشيخ أحمد الخليلي، الذي دعا في كثير من المناسبات إلى نزع فتيل الحرب وإلى التقارب الإنساني.

إعلان

أما في الجوار الخليجي، فيبرز الكثير من علامات القبول والتحفظ الحذر، حيث تتبني عواصم خليجية عديدة سياسية الترقب والحيطة، خاصة إذا ما سلمنا باعتقادها أن إيران تمثل تحديًا إستراتيجيًّا وعداءً تاريخيًّا، إلا أن العمق العُماني جدير بإدارة هذا التخوف وفق العمل الخليجي المشترك، وجعل إيران شريكًا جيوسياسيًّا وجارًا تجاريًّا.

وليست زيارة الرئيس الأميركي الأخيرة إلى بعض العواصم الخليجية ببعيدة عن التأثيرات، التي يمكن أن تدفع إلى تشكيل العلاقات الإستراتيجية مع إيران، ومنها إلى تحولات اقتصادية ملحوظة تقودها أميركا، ما قد يؤثر في تحقيق تقدم ملموس بشأن القضايا الإنسانية في الوطن العربي.

لذلك تعد الحالة العُمانية حالة متفردة في الجغرافيا العربية، متمثلة في الحضارة والتسامح الديني، والنموذج الفاعل في خارطة التوازنات السياسية العالمية؛ وبالتالي فإن الثقة الدولية تدفع بتحولها إلى قوة ناعمة، تعزز الهوية والخصوصية العُمانية، وتعيد التاريخ بلغة عصرية لا غلو فيها ولا تشنج، بعيدًا عن الضجيج المفتعل، وتفتح مبادئ الحوار بحكمة ونكهة عُمانيتين.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان