شعار قسم مدونات

مقاصد الحج.. عبادة تتجاوز الطقوس

نفرة الحجاج من عرفات إلى مزدلفة
الحج ليس مجرد رحلة روحية يؤديها المسلم مرة في العمر، بل هو تجربة إنسانية وإيمانية كبرى (الجزيرة)

في زمن المتغيرات الكبرى، تبقى شعيرة الحج ثابتة المعنى، عميقة الدلالة، تتجاوز حدود الزمان والمكان لتلامس قلب الإنسان وروحه، وتعيد تشكيل وعيه وسلوكه.

الحج ليس مجرد رحلة روحية يؤديها المسلم مرة في العمر، بل هو تجربة إنسانية وإيمانية كبرى، تلتقي فيها مفردات التوحيد، ومفاهيم العدالة، وصور المساواة، في أعظم مؤتمر رباني على وجه الأرض.

وإذا كان ظاهر الحج طوافًا وسعيًا ورجمًا وذبحًا، فإن جوهره أعظم من ذلك بكثير.. إنه رحلة نحو الله، وموسمٌ لتجديد العهد، وتطهير النفس، وتوحيد الأمة.

قال تعالى: ﴿وللَّه على النَّاس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلًا﴾ [آل عمران: 97]. وهنا لا يكتفي القرآن بالتكليف، بل يشير إلى الحكمة، كما في قوله: ﴿لِيشهدوا منافع لهم﴾ [الحج: 28]، وهي منافع شاملة، تتعدى الفعل إلى الأثر، وتجمع بين مقاصد الدين والدنيا.

في الحج، يتجرد المسلم من كل مظاهر الهوية الدنيوية، يلبس الإحرام الأبيض البسيط، ويهتف: "لبيك اللهم لبيك"، وكأنه يخلع الدنيا عن قلبه كما خلعها عن جسده

التوحيد.. عنوان الرحلة

في الحج، يتجرد المسلم من كل مظاهر الهوية الدنيوية، يلبس الإحرام الأبيض البسيط، ويهتف: "لبيك اللهم لبيك"، وكأنه يخلع الدنيا عن قلبه كما خلعها عن جسده، موقنًا أنه لا شريك لله في الملك ولا في العبادة. وهكذا، يتحول التوحيد من مجرد عقيدة عقلية إلى ممارسة يومية وموقف وجودي شامل.

العودة إلى الله.. ميلاد جديد

الحج فرصة لإعادة ضبط الروح؛ ففي الحديث النبوي: "من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" [البخاري].. تجربة تطهير شاملة للذنوب، وبدء صفحة جديدة مع الله ومع الذات، لا يتحقق فيها الغفران فحسب، بل تنبعث منها إرادة صادقة للتغيير والإصلاح.

مدرسة الطاعة والامتثال

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" [مسلم]. وكأن الحج منهج تعليمي عملي، يتعلم فيه المسلم الانقياد، والانضباط، والتسليم لله ورسوله، بعيدًا عن الجدل والتكلف.

الحج ليس طقسًا جامدًا ولا واجبًا يؤديه المسلم ليرتاح منه، بل هو ميلاد جديد، وانعطافة كبرى في مسار الحياة

الحج مؤتمر الأمة

في مشهد مهيب، يجتمع ملايين المسلمين من كل فج عميق: بياض وسواد، عرب وعجم، أغنياء وفقراء، يلبسون نفس اللباس، ويقفون في ذات الموقف، يرفعون الدعاء بلسان واحد.. لا مؤتمر أشمل ولا أوحد من هذا! وإذا كان العالم اليوم يئن تحت وطأة العنصرية والتمييز الطبقي، فإن الحج ينسف تلك الفوارق من الجذور، ويؤسس لقاعدة: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" [البيهقي].

إعلان

بين المنافع الدنيوية والبركات الاقتصادية

لم يغفل القرآن عن الجوانب الاقتصادية للحج، بل قال صراحة: ﴿ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا فَضلًا من ربِّكم﴾ [البقرة: 198]. فالحج موسم للتبادل التجاري، وانتعاش الأسواق، وفرصة للفقراء لكسب الرزق الحلال، ولأصحاب المشاريع لبناء شبكات عمل بين شعوب الأمة.

إصلاح اجتماعي يبدأ من الداخل

الحج يبدأ بإصلاح العلاقة مع الله، لكنه لا يتوقف عندها، بل يمد أثره ليصلح العلاقات بين الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مظلمة لأخيه فليتحلل منه اليوم" [البخاري]. وفي مشاعر الحج، يتطهر القلب من الكراهية، وتُمحى الأحقاد، ويعود الحاج أكثر صفاءً وسلامًا، نحو نفسه ومجتمعه.

هلّا استعددت لهذه الرحلة بقلبك قبل بدنك؟ وهلّا لبيت نداء الله بصدق؛ لتكون من أولئك الذين قال فيهم: ﴿وأَذِّن في النَّاس بالحجِّ يأتوكَ رجالًا..﴾ [الحج: 27]

الحج والتنوع الثقافي في إطار الوحدة

يكتشف الحاج في منى وعرفة ومكة المكرمة مدى تنوع الأمة في الأعراق واللغات والأعراف، دون أن يؤدي ذلك إلى الذوبان في الفوضى، بل يلتقي الجميع على عقيدة واحدة، ووجهة واحدة، ومناسك واحدة، في درس عملي لوحدة العقيدة مع احترام التنوع.

رحلة العمر أم ميلاد جديد؟

الحج ليس طقسًا جامدًا ولا واجبًا يؤديه المسلم ليرتاح منه، بل هو ميلاد جديد، وانعطافة كبرى في مسار الحياة.. من حج وعاد كما ذهب، فقد أضاع فرصة عمره، ومن عاد بقلب جديد وروح نقية، فقد فاز بالحياة مرتين.

فهلّا استعددت لهذه الرحلة بقلبك قبل بدنك؟ وهلّا لبيت نداء الله بصدق؛ لتكون من أولئك الذين قال فيهم: ﴿وأَذِّن في النَّاس بالحجِّ يأتوكَ رجالًا..﴾ [الحج: 27].

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان