شعار قسم مدونات

سوريا للجميع: دروس من الماضي

blogs ريف دمشق
التفاوت في التنمية ساعد على تشكيل وعي سياسي جديد في صفوف أبناء الأرياف (رويترز)

في مراحل متعددة من تاريخها الحديث، مرّت سوريا بتحولات سياسية واجتماعية أثرت بشكل مباشر في بنية الدولة والمجتمع.. واليوم، ومع استمرار تعقيدات المشهد السوري، تبرز الحاجة إلى مراجعة التاريخ بعين نقدية تساعد في فهم الحاضر، وتجنّب تكرار الأخطاء السابقة.

كل مشروع سياسي يعتمد على الإقصاء بدل الشمول، وعلى التصنيف بدل المواطنة، إنما يؤسس لمزيد من الانقسام، لا للاستقرار

تهميش الأرياف وبداية التشكل السياسي

خلال الحقبة الإقطاعية، عانت مناطق واسعة من سوريا -خصوصًا في الأرياف- من التهميش الاقتصادي والاجتماعي. شمل ذلك فئات مختلفة، من العلويين في الساحل، إلى الدروز في السويداء، والفلاحين في الجزيرة ودرعا وريف دمشق. ضعف الخدمات، وغياب البنية التحتية، وتراجع فرص التعليم والعمل، عوامل ساهمت جميعها في تأزيم الفجوة بين الريف والمدينة.

هذا التفاوت في التنمية ساعد على تشكيل وعي سياسي جديد في صفوف أبناء الأرياف، خصوصًا مع ظهور الحركات القومية واليسارية التي رفعت شعارات العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد والاحتكار السياسي.

صعود فئات مهمشة إلى السلطة

في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وجدت فئات مهمشة، منها أبناء الطائفة العلوية، في الأحزاب العقائدية -مثل حزب البعث- أداة لتحقيق طموحاتها السياسية والاجتماعية. تزامن ذلك مع انقلابات عسكرية غيّرت من طبيعة السلطة في سوريا. وصول حزب البعث إلى الحكم عام 1963 شكل نقطة تحول، إذ بدأت النخب الجديدة القادمة من الريف تتولى مناصب قيادية في الدولة.

لكن هذه التحولات لم تخلُ من إشكاليات، إذ انتقل مركز السلطة من طبقة إلى أخرى، دون بناء نظام مؤسساتي يضمن تداول السلطة ويفرض الشفافية والمساءلة.

إعادة إنتاج الإقصاء: خطر متجدد

بدءًا من عام 2011، ومع اندلاع الاحتجاجات الشعبية وتعرّي بنية الدولة والمجتمع، ظهرت مجددًا خطابات تدعو إلى إقصاء جماعات بعينها على خلفيات سياسية أو طائفية.

هذه الأطروحات لا تختلف جوهريًا عن السياسات التي ساهمت في تكريس التهميش وإنتاج دورات متتالية من الصراع في العقود السابقة. فكل مشروع سياسي يعتمد على الإقصاء بدل الشمول، وعلى التصنيف بدل المواطنة، إنما يؤسس لمزيد من الانقسام، لا للاستقرار.

إعلان

التجارب السابقة، سواء في فترات الانتداب الفرنسي أو بعد الاستقلال، أظهرت أن التمييز بين المواطنين يؤدي إلى نتائج كارثية تقوّض الوحدة الوطنية.

الاستفادة من دروس الماضي تقتضي الانتقال من منطق الغلبة إلى منطق التوافق.. سوريا المستقبل يجب أن تُبنى على عقد اجتماعي جديد، يضع المواطنة فوق أي اعتبار طائفي أو مناطقي

باتجاه مشروع وطني جامع

بناء دولة مستقرة يتطلب اتفاقًا وطنيًا واسعًا يعترف بتعدد الهويات، ويرتكز على المواطنة كأساس للحقوق والواجبات، وهذا المفهوم ليس تنظيرًا سياسيًا، بل ضرورة واقعية لضمان بقاء الدولة. تجارب دول أخرى أظهرت أن تجاوز الانقسامات لا يكون عبر المحاصصة، بل عبر بناء مؤسسات تحكمها معايير قانونية عادلة.

إرساء هذا النهج في سوريا يحتاج إلى مراجعة خطاب النخب السياسية والثقافية، وتبنّي خطاب جامع بعيد عن التجييش أو الاستقطاب.

بناء سوريا للجميع هو مسؤولية وطنية، تتطلب إرادة سياسية واعية، ونقاشًا عامًا مسؤولًا، وتخليًا حقيقيًا عن مفاهيم الامتياز والاحتكار

نحو عقد اجتماعي جديد

الاستفادة من دروس الماضي تقتضي الانتقال من منطق الغلبة إلى منطق التوافق.. سوريا المستقبل يجب أن تُبنى على عقد اجتماعي جديد، يضع المواطنة فوق أي اعتبار طائفي أو مناطقي، وإن أي محاولة لإعادة إنتاج الإقصاء أو الاحتكار السياسي ستؤدي إلى دورات صراع متكررة.

بناء سوريا للجميع هو مسؤولية وطنية، تتطلب إرادة سياسية واعية، ونقاشًا عامًا مسؤولًا، وتخليًا حقيقيًا عن مفاهيم الامتياز والاحتكار.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان