يضعنا الكاتب التشيلي "أنطونيو سكارميتا"، كاتب رواية "ساعي بريد نيرودا" الشهيرة في روايته "لم يحدث أي شيء" أمام تجربة إنسانية مؤلمة، تعيشها أسرة تشيلية تهجّرت بعد انقلاب بينوشيه عام 1973، الذي أطاح بالرئيس الاشتراكي سلفادور أليندي.. هذه الأسرة تجد نفسها مشتتة بين زمنين ومكانين: بين ماضي الوطن المفقود، وحاضر المنفى القاسي في ألمانيا التي منحتهم اللجوء.
لم يشعر بالغربة فقط لأنه غادر وطنه، بل لأنه أصبح غريبًا عن كل شيء؛ عن ذاته، عن والديه رغم وجودهما معه، عن تاريخه الشخصي، حتى اسمه الحقيقي يُغيَّب
المنفى: اختفاء بطيء للذات قبل الوطن
في هذا السياق، يصبح اقتباس الكاتب "روبرتو" من كتابه "المنفيون" تعبيراً مكثفًا عن جوهر ما تضمنته رواية سكارميتا: "أن تكون منفيًّا لا يعني أن تختفي، بل أن تتقلص، فتصبح أصغر فأصغر، سواء جرى ذلك ببطء أو بسرعة، حتى تصل إلى طولك الحقيقي، الطول الحقيقي للذات".. هذا التصغير أو الانكماش الداخلي هو ما تلتقطه الرواية ببراعة، حين يتحول الوطن إلى ذكرى باهتة، وتصبح الهوية أشبه بحقيبة سفر ضائعة!
تتخلل الرواية مشاهد درامية، ويطغي عليها سرد هادئ ومؤلم، يكشف كيف أن "المنفى" يعيد تشكيل الإنسان، ليس فقط بعزله عن موطنه، بل بتقليص أحلامه، وانكماش صوته، حتى يصبح مجرد انعكاس لما كان عليه. يقول بطل "لم يحدث أي شيء" معبرًا عن شعوره إزاء المنفى: "في البداية شعرت بأني مهمل أكثر من عقب سيجارة في برلين"!
لم يشعر بالغربة فقط لأنه غادر وطنه، بل لأنه أصبح غريبًا عن كل شيء؛ عن ذاته، عن والديه رغم وجودهما معه، عن تاريخه الشخصي، حتى اسمه الحقيقي يُغيَّب.. في المدرسة الألمانية وبين زملائه لا يُعرف إلا بعبارة "لم يحدث أي شيء"، وهي العبارة الوحيدة التي كان يحفظها في اللغة الجديدة، فأصبحت لقبه وهويته المختزلة.
على الرغم من أن فكرة الرواية مبنية انطلاقًا من حدث سياسي هو انقلاب بينوشيه، فإن سكاراميتا يمر بخفة على تلك الأحداث.. كيف حدث الانقلاب؟ ما الأيديولوجيا التي أسهمت فيه؟
يتعمد سكارميتا أن يروي القصة من منظور الابن "لم يحدث أي شيء"، لا الأب السياسي المكسور، ولا الأم الغارقة في الحنين؛ فبينما يؤجل الأب حياته "حتى يعود الوطن"، مكتفيًا بندوات سياسية بلا أثر، وجمع المال للمقاومة، تعيش الأم في عزلة صامتة، لا تجد ملاذًا سوى في البكاء. أما الابن الراوي، فيخوض غربته الخاصة بصمت مختلف، بعيدًا عن الشعارات، كان يحلم أن يكون مغنيًّا في تشيلي، أما الآن فيكفيه فقط أن يعرف زملاؤه أين تقع بلاده.. يقول: "لم يكن أي شخص في فصلي بالمدرسة يعرف أين تقع تشيلي"!
هذا الحدث التفصيلي انعكاس مباشر لتقسيم ما عايشه البطل من زمنين ومكانين؛ ففي كل لقاء تتكرر تلك اللحظات الصغيرة التي ترسم فيه فجوة لا تُسد، بين الماضي الذي يحتوي كل معاني الانتماء، والحاضر الذي أصبح مرآة فارغة تعكس له صورته المنذورة.
إلى جانب هذا تتجلى قسوة المنفى في تحذير الأب لابنه، وفي تذكيره بأنهم مجرد منفيين سياسيين، وأن أدنى فعل قد يعيدهم إلى بلادهم.. إثر هذا يقول الابن "سرنا على أطراف أصابعنا خلال أسبوع، كنا نصعد الطوابق كالأشباح لكيلا تشكو الجارات"! في سياقها، قد تبدو ملحوظة بسيطة نابعة من تصور الأب عما ينبغي لابنه أن يكونه، لكن بالنظر إلى أن تكون منفيًّا يعني أنك غير مرئي، تخاف أن تتكلم أو أن تضحك أو أن تخطئ؛ لأنك على الهامش، ويبقى خيارك الأفضل هو أن لا تكون عبئًا.
على الرغم من أن فكرة الرواية مبنية انطلاقًا من حدث سياسي هو انقلاب بينوشيه، فإن سكاراميتا يمر بخفة على تلك الأحداث.. كيف حدث الانقلاب؟ ما الأيديولوجيا التي أسهمت فيه؟.. لم يشأ سكارميتا أن يزج قارئه في التفاصيل السياسية، بقدر ما عبر عن التجربة الإنسانية وما يترتب عليها.
رواية توحي للقارئ فعلًا بأنه لم يحدث أي شيء، لا إجابات، لا حلول، ولا رأي.. كما لوأنه يقول: ما الجدير بالحدوث حين يضيع كل شيء، لا سيما الوطن والذكريات والأحلام؟
تحتل الحياة الخاصة لبطل الرواية "لم يحدث أي شيء" معظم الرواية، من هذه التفاصيل تبرز"إيديث"، المرأة الألمانية الفاتنة، حيث شكلت حلقة الوصل بين البطل وعلاقته بالمنفى، ولم ينته دورها في الجانب العاطفي وحسب، بل رأها ملجأ، إذ مثلت النقيض التام لما يعيشه مع أسرته المنفية؛ فهي جزء من المجتمع الألماني، لا تحمل هموم النفي أو السياسة، ولا تعاني عبء الهوية القسرية التي فرضها عليه المنفى.. ومن جانب آخر، ومن علاقته بها، أدرك تعقيد الاندماج في مجتمع جديد، حيث برزت الفروق الثقافية والفكرية كرمز للهوة بين المنفي وجذوره، حتى إن العلاقة لم تدم، انتهت بشكل رتيب وفاتر، وبهذا رمز سكارميتا لهشاشة الروابط بين عالم بطله الداخلي (العاطفة والرغبة)، وعالمه الخارجي المشتت (السياسة والمنفى).
تنعطف تيمة الرواية وتصل ذروتها حين يخطئ بطل الرواية ويقع في ما حذّر منه والده.. لم تكن مشكلة عادية، بل إنه أوقع شابًّا ألمانيًّا أرضًا بعد ركلة متهورة في خصيتيه، ينقل إثرها إلى المستشفى، فيما اقتفى "مايكل" -شقيق المصاب- أثر بطل الرواية التشيلي، وهدده بمكالمات متفرقة.. تهرب بادئ الأمر، غاب عن المدرسة، بقي في البيت، ليلتقيا بعد ذلك عن تراضٍ، وحددا موعدًا للمواجهة.. وصلا بالمشاجرة إلى الحافة، حد أن يقتتلا، وبعد لحظة صمت تغير كل ذلك، صارا صديقين!
يضعنا الراوي هنا أمام خبرات المنفي حين يصبح كل شيء لديه قابلًا للتغير، كل خياراته مفتوحة، فمن خسر وطنه يعيش بلا رؤية، بلا هدف، وبلا مقاومة أيضًا.
رواية توحي للقارئ فعلًا بأنه لم يحدث أي شيء، لا إجابات، لا حلول، ولا رأي.. كما لوأنه يقول: ما الجدير بالحدوث حين يضيع كل شيء، لا سيما الوطن والذكريات والأحلام؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.