كان ذلك في المساء، المساء الذي لا يشبه غيره، حيث لا ضجيج خلف الأبواب، ولا أصوات تأمرني بأن أكون "على ما يرام".
جلست على الأرض، لا على الكرسي ولا على الأريكة، بل على البلاط البارد كما كنت أفعل ذات طفولة بعيدة، وأغمضتُ عيني، ثم رأيته.. لم يأتِ من باب، ولا خرج من جدار، بل حضر كأنه لم يغب، كأنني أنا الغائب وهو المنتظر، كان يلبس قميصًا قديمًا، لونُه باهت من كثرة اللعب، وكان حافيًا، كان يشبهني.. أكثر منّي الآن.
هنا خفت.. خفت أن يسألني لماذا لم أصرخ حين جُرحت أول مرة؟ لماذا تعلمت أن أُطفئ غضبي بالشاي والابتسامة المصطنعة؟
لم أنظر إليه كغريب، بل شعرت كما لو كنت أمام مرآة لا تُظهر التجاعيد ولا الحذر، ولا الطبقات التي راكمتها عبر السنوات كي أحمي نفسي من الانكسارات. قال لي بصوت لم أسمعه بل شعرت به: "أخيرًا جئت"! ولم أستطع أن أنكر.
كل الأعذار بدت لي سخيفة، أمام حضوره شعرتُ بأنني أتعرّى داخليًّا، كما لو أنني أخلع كل ما علّقوه فوقي: الواجب، والقوة، والعقلانية، والنجاح، والهيبة.. كل تلك الأثقال التي لم تكن يومًا من اختياري.
تذكرت عندها ما قاله جيمس هيلمان: "أعمق جزء فينا لم يكبر أبدًا". وهذا الجزء.. كان يجلس أمامي الآن، حيًّا، وهادئًا، ولا يُطالبني بشيء، سوى ألا أخونه مرّة أخرى.
سألني دون أن يُحرك فمه: "هل ما زلتَ تكتب؟" قلت: "أكتب كثيرًا". قال: "لكن ليس لي".. كان صادقًا.
لم أكتب له منذ سنوات، نسيت رسائله التي خطّها في دفاتري بالرصاص، ونسيت حتى نبرة صوته حين كان يقول لي: "اكتُب لأنك تحب، لا لأنك تخاف أن تُنسى". ثم جلس قربي، لا ليعاتبني، بل ليرى إن كنت أستطيع البكاء مثله.
وهنا خفت.. خفت أن يسألني لماذا لم أصرخ حين جُرحت أول مرة؟ لماذا تعلمت أن أُطفئ غضبي بالشاي والابتسامة المصطنعة؟ لماذا ابتلعت الخذلان كأنه قهوة الصباح؟ قلت له بصوت مكسور: "كنت أظن أنّ هذا هو النضج".
لكنني كبِرت.. وضعت المسافة بيني وبين نفسي، وأخفيت عن العالم الطفل الذي كان يرى كل شيء بلغة القلب
ضحك كما يضحك الأطفال حين يسمعون كذبة لا تُقنعهم.. تذكرت عندها عبارة جون برادشو: "نقضي النصف الأول من حياتنا نحاول أن نصبح كبارًا، ثم نقضي النصف الآخر نحاول أن نعود إلى ما فقدناه".
وكنت – بكل صدق- أريد العودة إليه! ولأول مرة، لم أشعر بالخجل من ذلك. قال لي وهو يرسم دوائر صغيرة بأصبعه: "لم أكن أريد أن أكون طبيبًا أو مهندسًا كما قالوا لي، كنت فقط أريد أن أبني بيتًا من الرمل.. ولا يهدمه أحد".
شهقت بصمت.. كم من حلمًا هدمته بيدي، لأرضي الذين قالوا لي: "هذا لا يليق بك"، "هذا ليس جديًّا"، "هذا ليس واقعيًّا"؟. كنت قد هجرت حتى ذلك الصوت الصغير الذي كان يقول لي في الليالي: "لا تخف، أنت كافٍ كما أنت".
تذكرت حينًا كنت أتكلم فيه مع الطيور دون أن أنتظر منها ردًّا، وأنني كنت أكتب رسائل إلى آخرين وأضعها تحت وسادتي، وأنني كنت أقول "أحبكم" لأشخاص لا يعرفون كم كانت الكلمة صادقة.
لكنني كبِرت.. وضعت المسافة بيني وبين نفسي، وأخفيت عن العالم الطفل الذي كان يرى كل شيء بلغة القلب. وقد قالت أليس ميلر: "الطفل في داخلك لا يطالبك بالعودة إلى الطفولة، بل بأن تكون صادقًا معه."
الآن.. لا أهرب منه، بل أفسح له مكانًا في كل لحظة، أجعله يختار الموسيقى، والألوان، والعناوين.. أدعوه ليقرأ لي قبل أن أنام، وأصدّق دموعه قبل أن أصدّق التحليلات النفسية
ولأول مرة منذ سنين، شعرت أنني أستطيع أن أكون صادقًا معه.. سألني إن كنت ما زلت أحب البسكويت بالكاكاو. قلت: "لم أذقه منذ عشر سنوات". قال: "إذن، لا تتعجب من مزاجك السيئ"، وضحك.
حين ضحك، انفتحت في داخلي نافذة نسيتها، كأن قلبًا ما كان مغلقًا عليّ، كأنني كنت أعيش بنصف تنفّس. منذ تلك الليلة، تغيّر شيء عميق في داخلي.. صرت أقول له كل مساء: "تصبح على خير".
أشتري دفاتر ملوّنة لأكتب فيها، لا لأحسّن خطي، بل لأرتب روحي، أرتدي الألوان التي تُضحكه، لا التي تُرضي أعينهم.. أصبحتُ أركض أحيانًا بلا سبب، وأبكي دون أن أشرح لماذا، وأسمح للطفل في داخلي أن يُمسك بيدي حين تُظلم الطرق. وكما قال هنري نوفن: "ليس علينا أن نقتل الطفل فينا لنكون كبارًا، بل أن نحميه.. ونمنحه صوتًا".
والآن.. لا أهرب منه، بل أفسح له مكانًا في كل لحظة، أجعله يختار الموسيقى، والألوان، والعناوين.. أدعوه ليقرأ لي قبل أن أنام، وأصدّق دموعه قبل أن أصدّق التحليلات النفسية؛ لأنه ببساطة.. الجزء الوحيد فيّ الذي لم يكذب عليّ يومًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.