كثيرًا ما نُتّهم بالانعزال والتفاهة، لمجرد أننا نطيل النظر في هواتفنا، وكأن الهاتف صار رمزًا للبطالة والانشغال بما لا ينفع! فإن رآك الناس ممسكًا بجوالك، لمزوك بنظراتهم، وسلّطوا عليك ألسنتهم، سرًّا وجهرًّا، وهذا الحكم المسبق -وإن شاع- فإنه ظالمٌ في كثير من الأحيان؛ لأن الصورة التي طُبعت في أذهان الناس عن الجوال لم تعد تمثل الواقع كله!
كم من فيديو قصير أو تصميم بسيط أو خاطرة مكتوبة في الجوال كانت -أو كان- سببًا في توبة مسلم، أو إقبال عاصٍ، أو تفريج مهمومٍ، أو تنبيه غافل، أو إشغال عاطل!
نعم، لا ننكر أن أكثر ما يستهلك الناس أوقاتهم فيه إنما هو تضييع وتسطيح وتفاهات؛ لكن هذا لا يجعل الجوال شرًّا كله، بل الحق أن الهاتف كالسيف: في يد الصالحين نفع، وفي يد العابثين شرّ محض.
ففي هذا الجهاز الصغير يمكنك أن تتعلم، وتُعلّم، وتخطط، وتنفذ، وتشارك، وتنتج؛ فمنه تسمع المحاضرات والدروس، وتتابع الحلقات العلمية، والمجالس التفاعلية، والوثائقيات النافعة، وتقرأ الكتب، وتتابع وتتبع أهل العلم والصلاح، وتستلهم من سيرهم، وتبني لك طريقًا!
وما أكثر الذين رأيناهم وقد استنفعوا بجوالاتهم فأسسوا بها تجارتهم، ومتاجرهم الرقمية، وأطلقوا مشاريعهم، وكوّنوا جمهورهم، ومنهم من جعل من جواله أستوديو "يُمنتج" عليه، ويرسم، ويصمم، حتى اشتهر وأبدع وكسب رزقه بالحلال!
وهناك من الناس من جعله الله معلمًا عبر الجوال، به يهدي الناس، ويذكّرهم بأيام الله ودينه، ويشارك الخير، ويصمم المواد الدعوية والتعليمية، ويُفعِّل المساحات الجماعية، ولا شك أن الأخير بابٌ من أعظم أبواب الأجر، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" (رواه مسلم).
وكذا، كم من فيديو قصير أو تصميم بسيط أو خاطرة مكتوبة في الجوال كانت -أو كان- سببًا في توبة مسلم، أو إقبال عاصٍ، أو تفريج مهمومٍ، أو تنبيه غافل، أو إشغال عاطل!
الجوال ليس مذمومًا لذاته، إنما يُذم الإفراط فيه، أو استعماله في الباطل، أما من جعله وسيلة لنفع الناس وتعليمهم، أو تطوير نفسه وتجارته، أو نصرة دينه، فحريّ بنا أن يُشاد به
فلنتريث في أحكامنا، لئلا نقع بظلم إنسان لمجرد أنه يمسك الجوال، فلعل هذا يستخدمه في منفعة وخير، ولنحذر من اتهامه بما ليس فيه، فبعض الناس -من غير قصد- قد يثبطون العاملين في الخير الرقمي، إذ ينظرون إليهم شزرًا، أو يقول أحدهم: "يا أخي، اترك الجوال وكن مع الناس"!… لكن، أليس من الناس من رسالته أن يكون مع الناس من خلال الجوال؟
وغاية ما أقول هنا: إن الجوال ليس مذمومًا لذاته، إنما يُذم الإفراط فيه، أو استعماله في الباطل، أما من جعله وسيلة لنفع الناس وتعليمهم، أو تطوير نفسه وتجارته، أو نصرة دينه، فحريّ بنا أن يُشاد به لا أن يُحتقر، فتكون رسالتنا له أن استمرّ في مشروعك، لا تتردد، ولا تتراجع خطوة واحدة، فإنك إن دللت الناس على خيرٍ، كان لك مثل أجرهم.
فكيف لو كنت سببًا في هدايتهم؟ ثم إن العالم اليوم جله رقمي؛ فابتعادنا عن هذا المجال وتحقيره دعوة للفشل والتأخر والتراجع، لا سيما مع برامج وأدوات "الذكوان" (الذكاء الاصطناعي)؛ فإن لم نتقدم فيه ونتعرف عليه، ونحسن استعماله واستخدامه، فإنا نتقادم ونتخلف.. والله المستعان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.