الكتابة: مواجهة ناعمة مع الذات

لا شيء أكثر استيعابًا للنفس من الكتابة، ومحاولة تجسيد الفكر في كلمات (شترستوك)

لطالما دُهشتُ لقدرة الكُتّاب على إذابة الشعور ورصّه في كلمات، تسحرني كل عبارة تحمل ثقل أيام وصدمات بالغة، أو تصيغ فرحًا وتضم بهجة، عبارة واحدة قد تلخص مشوار حياة كاملة، وتجعلني أفكر فيها لأيام وربما أكثر، وكنت كلما كتبت خاطرةً أو نصًّا شعرت وكأنما أتممت جلسة علاج نفسي، بدون انتظار وصفة طبية أو تعليمات أتبعها.

للكتابة عذوبة بدايات الحبّ الأولى ونشوة تجربة شيء جديد؛ حيث تمتد لما هو أعمق من مجرد وسيلة تعبير، فمع كل هدية أهديها أرفق رسالةً فيها شيء من نفسي وشعوري، وفي كل موقف أواجهه شخصيًّا، ألجأ للكتابة واللغة، تدوينًا كان أم خربشة، حبًّا أم اعتذارًا، كانت الكتابة دومًا حاضرة.

يقال إنه في كل واحد منا كاتب بانتظار أن يُكتشف، أوْمن بهذا الافتراض إلى حد بعيد، كما أوْمن بقوة اللغة على انتشالنا من فوضى الخارج وتسارع كل شيء حولنا.

يقول العقاد ما معناه "أقرأ لأن حياةً واحدة لا تكفيني"… لطالما لخصت هذه العبارة علاقتي مع الكتابة، فكما تشبه القراءة صديقًا يتحدث إليّ، كانت الكتابة أشبه بصديق يستمع إلي، بلا حكم أو نقد، أو مقاطعة أو تعقيب، وغالبًا ما كنت أكتب بلا ترتيب ولا تنمق، بُحتُ لدفاتر ملاحظاتي بما لم أبحْ به يومًا لمخلوق، لا لشيء إلا أن الكتابة -بشكل أو بآخر- تجرّدني حتى من نفسي، وتضعني أمام مواجهة حقيقية مع ذاتي، أتعرّف إليها مع كل خاطرة أو تدوينة، أصقلها وأنميها، فالواحد منّا في رحلة دائمة لامتناهية، ولا وصول فيها، للتعرف على نفسه.

لن تهدأ فِكَرنا ولا دواخلنا إلا بالمواجهة، ولا شيء أكثر سحرًا من الكتابة، لتجريد أنفسنا من أنفسنا، وكشف هشاشتنا الإنسانية أمامنا

في الكتابة أجدني

في الكتابة أجدني وأفهمني، وبالكتابة اتسعت مداركي ورأيت الحياة بأكثر من عينين، وأحببت الكون وما يحويه بأكثر من قلب واحد. كنت أكتب لأرى ما وراء كل شيء، لأغوص في أعماق كل ما هو ظاهر، لأفهم تلافيف الكون وكلاكيعي الشخصية، لأحميني من تآكل فِكَري داخل رأسي، رأسي الذي حملني أكثر مما حملته يومًا، ولأبحر في أغوار النفس وما خلف كل كلمة قيلت أو لم تقلْ.

إعلان

ففي خضم التشوش الذي لا حصر له، وتسارع كل شيء حولي، والشعور المتواصل بالضياع؛ كنت أستعيد توازني بالتدوين، وأنظم داخلي وفوضاي بالكلمات التي لم تكن يومًا مجرد كلمات، بل حضنًا واسعًا وطبطبةً صادقة ومواساة شافية، كانتذ بمثابة صديق دائم الاستماع بلا ملل أو تساؤلات، مثل: كيف أخفف عنه؟ متى ينتهي من كلامه؟ ألم يجد غيري يشكو له؟.. وأسئلة كثيرة أخرى. فعلى غرار الحديث مع شخص ما، الحديث بالكتابة كان دائمًا أكثر حرية وسلاسة، من النفس إلى النفس بكل استرسال.

إن ما يربكني بخصوص الكتابة هو انعقاد اللغة وتشابكها، ورفضها الخروج أو الصياغة.. في مرات كثيرة، كنت أثقل على نفسي من نفسي، وأبت اللغة أن تطاوعني، فكنت أشعر بأن يديَّ مكبلتان وأصابعي من فولاذ تأبى الحراك! في مواقف كهذه يساورني شعور بالعجز وبأن الكتابة ليست لي ربما، وما ألبث أن أقنع نفسي بهذا الأمر حتى أعود وأكتب أي شيء، فقط لأتخلص من حبسة الكتابة وأتجاوز هذا الشعور المقيت الذي يحرمني لذتها.

لا شيء أكثر استيعابًا للنفس من الكتابة، ومحاولة تجسيد الفكر في كلمات، وفك شفراتها بالتجريد والتدوين، ليستعيد الإنسان نفسه وما هو عليه حقًّا

الكتابة كخلاص روحي

في كل مكان وزمان، ولعديد من الكتاب، كانت الكتابة بمثابة خلاص روحي ووسيلة تشافٍ.. فمثلًا، الكاتبة الإنجليزية سيلفيا بلاث منحتها الكتابةُ شعورًا بالجدوى والمعنى، ففي إحدى قصائدها الأولى كتبت:

تسألني لماذا أُمضي عمري في الكتابة

إن كانت مصدر تسلية

إن كانت تستحق

وفوق كل شيء إن كانت ذات جدوى

إن لم يكن، إذن، أثمة سبب؟

أنا أكتب فقط

لأن هناك صوتًا في داخلي

لن يسكت

لن تهدأ فِكَرنا ولا دواخلنا إلا بالمواجهة، ولا شيء أكثر سحرًا من الكتابة، لتجريد أنفسنا من أنفسنا، وكشف هشاشتنا الإنسانية أمامنا، وهي التي مهما فعلنا -وبغض النظر عن الوعي الذي توصّلنا إليه- فإننا لن نجرؤ على إبدائها أمام إنسان، مهما بلغت درجة القرب والشفافية بيننا.

إن ما نعيشه اليوم من زيف وهشاشة وتكُّلف بعيد كل البعد عن بساطة الإنسان الحقيقي، يجعل الواحد منا في صراع دائم، وبحث لامتناهٍ عن الذات الحقة، التي تاهت وسط هذا العالم الفضفاض المشبع بالتصنع. فأصبح فهم النفس من أكثر الأمور استعصاءً وصعوبة.. ومع كل هذا وأكثر، نحن بحاجة أولًا لوعي به، ثم الغوص في فهمه.

ومرةً أخرى أقول: لا شيء أكثر استيعابًا للنفس من الكتابة، ومحاولة تجسيد الفكر في كلمات، وفك شفراتها بالتجريد والتدوين، ليستعيد الإنسان نفسه وما هو عليه حقًّا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان