لطالما كانت الكتابة بالنسبة لي عالمًا داخليًّا بامتياز!. كنت أكتب لأن الكلمات هي الشيء الوحيد الذي يمنحني إحساسًا بالاتساق في عالم يفتقر إلى ذلك.
في تلك اللحظات كانت الكلمات تتدفق كمرآة عاكسة، تعيد إليَّ ملامح روحي، وتمنحني مساحة للوجود بعيدًا عن الضجيج. لم أفكر يومًا أن الكتابة قد تتحول من طقسٍ فردي نقي إلى ساحةٍ ملوثة تتسلل منها محاولات السيطرة والانتهاك.
رسائله سرعان ما أخذت منحى آخر.. بدأ يسأل عني شخصيًّا، عن روتيني اليومي، عن أسباب عزلتي، عن الكيفية التي أكتب بها
لم أسعَ يومًا إلى أن أكون كاتبة معروفة، كنت أكتب لنفسي ولمن يعثر صدفةً على كلماتي، اخترت أن أظل بعيدة عن الأضواء، مقتنعة أن القيمة الحقيقية للأدب تكمن في أثره لا في بريقه. نصوصي كانت تعبر عني، لكنها كانت تُكتب بعيدًا عن أي رغبة في لفت الأنظار.
ظننت أن هذا الحيز الصغير، الذي أعيش فيه ككاتبة مجهولة، سيمنحني حماية من تداخل الآخرين معي على مستوى شخصي، لكنني كنت مخطئة.
في يومٍ ما، وبينما كنت أتابع ردود فعل القرَّاء على نصٍّ أدبي نشرته، وصلتني رسالة من ناقد أدبي بارز، كان معروفًا باسمه، صوته يحضر في الأمسيات الثقافية، ونقده الأدبي يُحتفى به في الصحافة.
بدأ حديثه بإعجابٍ صادق -أو هكذا بدا لي- عن النصوص التي أكتبها، كان يتحدث عن كلماتي كأنها نافذة مفتوحة على أعماق لا يراها الجميع. شعرت بالامتنان؛ ذلك الشعور الذي يسري في جسد أي كاتب صغير حين يُقرأ نصه من قِبل شخصية ثقافية كبيرة.
لكن رسائله سرعان ما أخذت منحى آخر.. بدأ يسأل عني شخصيًّا، عن روتيني اليومي، عن أسباب عزلتي، عن الكيفية التي أكتب بها. كان يبدو وكأنه يحاول الاقتراب من "الإنسانة" خلف النص، وليس النص ذاته. ورغم تحفظي، لم أشكّ في نيته حينها، كنت أعتبر ذلك نوعًا من الحماس الطبيعي الذي يمكن أن يشعر به ناقد تجاه كاتبة يراها واعدة.
ما لم أفهمه حينها، هو أن الحماس الذي أظهره لم يكن تجاه نصوصي بقدر ما كان تجاه استغلال عزلتي. كان يعرف، بذكاءٍ ملحوظ، كيف يجعلني أشعر وكأنني مدينة له، وكأنني سأخسر الكثير إن رفضت فتح أبوابي له. رسائله بدأت تزداد جرأة، تتحدث عن "عجبه بي كامرأة" وعن ضرورة أن أتجاوز "هروبي من الضوء"، على حد تعبيره.
بدأتُ أتجنب الرد على رسائله، لكن تجنبي لم يكن نهاية الحكاية؛ إذ تحول صمتي إلى سببٍ جديد لإلقاء اللوم عليّ. "لماذا تختبئين؟"، "لماذا تخشين الحديث معي؟"
بدأتُ أشعر بالضيق؛ فما يفعله جعلني أشعر بأنني مُحاصرة. لكن، في مجتمعٍ أدبي يشيد دائمًا بالمكانة، شعرت أنني أفتقد القوة التي تمكنني من المواجهة.
عبر رسائله، كان يلجأ إلى عبارات تُشعرني بالذنب، تُصورني ككاتبة "تحتاج إلى توجيه"، وكأنني ضعيفة أو عاجزة عن شق طريقي الأدبي دون تدخله. "أنتِ بحاجة إلى من يؤمن بكِ"… كان يقولها وكأنني مطالبة بالاستجابة لإيمانه هذا، وكأن امتناني يجب أن يتحول إلى قبولٍ كامل بوجوده في حياتي.
كان الأمر أشبه بحصارٍ بطيء، لم يكن التحرش هنا مباشرًا أو فجًّا؛ بل كان يدور حول استغلال الثقة التي منحتها الكتابة، واستغلال الفجوة بين كاتب بعيد عن الأضواء وناقد يمتلك سلطة أدبية وثقافية.
بدأتُ أتجنب الرد على رسائله، لكن تجنبي لم يكن نهاية الحكاية؛ إذ تحول صمتي إلى سببٍ جديد لإلقاء اللوم عليّ. "لماذا تختبئين؟"، "لماذا تخشين الحديث معي؟"، ألا ترغبين في الاستفادة مما أقدمه؟"… كانت هذه الرسائل تصيبني بالارتباك، لأنها تجعلني أبدو وكأنني السبب في إغلاق الأبواب.
في هذه المرحلة، فهمتُ أنني لستُ أمام حالة إعجاب عادية أو علاقة بريئة بين ناقد وكاتبة؛ كنتُ أمام نموذج معقد للتحرش في الأوساط الثقافية، ذلك النوع الذي لا يأتي عبر كلمات صريحة، بل يتسلل في الظلال، ويستغل هشاشة الحدود بين النصوص وأصحابها.
لستُ الوحيدة التي واجهت هذه التجربة، لكنها كانت كافية لأجعل منها شهادة على واقع يجب أن نواجهه بشجاعة.. الكتابة ليست استسلامًا، بل هي فعل مقاومة.
النساء في الأوساط الثقافية يواجهن هذا النوع من التحرش يوميًّا، لكنه يظل محجوبًا عن العيون، لأن أصحابه غالبًا ما يكونون أشخاصًا ذوي سلطة معرفية أو رمزية. هذه السلطة تمنحهم قدرة على تبرير تصرفاتهم، بل وتجعل الضحايا أحيانًا يشعرن بالذنب إذا فكرن في مواجهتهم!
لكن ما يجعل الأمر أشد قسوة هو أثره على علاقة المرأة بذاتها ككاتبة.. الكتابة، التي كانت بالنسبة لي مساحة للحرية المطلقة، تحولت إلى شيء أخشاه. كل نص أكتبه كان يبدو كنافذة مفتوحة تُستغل للوصول إليَّ.
اليوم، أكتب هذه السطور وأنا أتساءل: كيف يمكن للكتابة أن تظل مساحة آمنة للنساء؟ كيف يمكننا أن نخلق بيئة ثقافية تحمي الكاتبات من هذا النوع من الاستغلال.
لستُ الوحيدة التي واجهت هذه التجربة، لكنها كانت كافية لأجعل منها شهادة على واقع يجب أن نواجهه بشجاعة.. الكتابة ليست استسلامًا، بل هي فعل مقاومة. ومهما حاولوا أن يجعلوا منها بابًا للتسلط، ستظل كلماتنا أقوى منهم جميعًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.