الديكولونيالية – أو "تفكيك الاستعمار"، كما ترجم في معجم مصطلحات الدراسات ما بعد الكولونيالية- هي مفهوم يعبر عن عملية تفكيك العناصر المستترة لتلك القوى المؤسسية والثقافية، التي منحت ديمومة للنفوذ الكولونيالي، وظلت كذلك حتى بعد حصول دول الجنوب على استقلالها السياسي. إذ تحاول الديكولونيالية استعادة قيم وهوية الأمم المستعمَرة، التي غالبًا ما تتعرض للتهميش في الخطاب الغربي السائد.
ويتمثل أحد أهم مظاهر هذا الفهم في التفكيك الكامل للمفاهيم الغربية، التي تعتبر الغرب مركزًا حضاريًّا للعالم، والعمل على تجاوز الهيمنة التي فرضتها القوى الاستعمارية من خلال تحطيم المقولات والمعايير الغربية التقليدية والتنميطية.
إن الديكولونيالية تدعو إلى فتح آفاق جماعية جديدة، غير رأسمالية وغير كولونيالية كما ينادي بها غوماز؛ بحيث يتم انتهاج مسلك وسط، ليس بالرأسمالي ولا بالشيوعي، من أجل رسم منعرج فكريّ مغاير
الديكولونيالية كفكر نقدي وتحليل للسلطة الكولونيالية:
ظهرت الديكولونيالية، كضرب جديد من الفلسفة المغايرة لمركزية اللوغوس الغربي، منذ تسعينيات القرن الماضي مع فلاسفة من دول العالم الثالث؛ إذ ميز بادرو بابلو غوماز – وهو من أشهر منظري هذا الفكر- بين ثلاثة أنماط من إعادة تنضيد النظام العالمي باعتبار أن الديكولونيالية هي واحدة منها. أول هذه الأنماط إعادة التغريب، وثانيها نزع الطابع الغربي، وثالثها الديكولونيالية، موضحًا مميزات كل منها كالتالي:
يسعى النمط الأول إلى الحفاظ على مركزية اللوغوس الغربي وهيمنته على العالم، مع التمسك بالمركزية الأوروبية والنظام الاقتصادي الليبرالي.
أما النمط الثاني، فينخرط في صراع مع الغرب حول السيطرة على العالم، ليؤسس عالمًا متعدد الأقطاب، غير مركزي وغير أوروبي، لكنه يبقى محكومًا بالرأسمالية، وفيما يتعلق بإعادة بناء اليسار، فإن هذا يحدث في إطار نقد للرأسمالية، لكنه لا يتجاوز المركزية الأوروبية.
أما الطريق الثالث، الذي هو الديكولونيالية، فيعتمد على نقد المركزية الأوروبية التي تقوم على الرأسمالية والليبرالية الجديدة، وكذلك التمييز العنصري الإبستمولوجي، وكل ادعاءات الحداثة الكولونيالية.
ومن ثم، فإن الديكولونيالية تدعو إلى فتح آفاق جماعية جديدة، غير رأسمالية وغير كولونيالية كما ينادي بها غوماز؛ بحيث يتم انتهاج مسلك وسط، ليس بالرأسمالي ولا بالشيوعي، من أجل رسم منعرج فكريّ مغاير، وإحداث ضرب من «الانقلاب الراديكالي»، الذي تصبح فيه المؤسسات في خدمة الحياة بدلًا عن خدمة رأس المال.
أحد الأبعاد الأساسية التي تتناولها الديكولونيالية هو النقد الجذري للجماليات الكولونيالية، التي فرضها الغرب على الشعوب المستعمَرة
التحرر من الاستعمار: سيرورة تاريخية مستمرة
الديكولونيالية ليست مجرد فكرةٍ أو مفهومٍ يمكن تحقيقها بشكل آني وفوري، بل هي سيرورة تاريخية ممتدة، تتطلب جهدًا مستمرًّا لفك الارتباط بالسلطات الاستعمارية التي شكلت واقع المستعمرات السابقة.
إن تحرير الذات من الاستعمار يتطلب أكثر من مجرد استقلال سياسي؛ فهو عملية معقدة تهدف إلى فك الهيمنة التي فرضها الاستعمار في مختلف المجالات، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو إبستمولوجية.
كما يرى العديد من المفكرين، لا يمكن النظر إلى الاستقلال على أنه نقطة النهاية، بل هو بداية لرحلة طويلة من إعادة بناء الهويات الثقافية والاجتماعية، التي تعرضت للتشويه جراء الاستعمار والرؤى الاستشراقية الإمبريالية والوطنيات الأليفة، التي نصبتها القوى الاستعمارية بعد منحها الاستقلال السياسي الصوري لمستعمراتها.
وفي هذا السياق، ينظر فرانس فانون في تحليلاته لظاهرة الاستعمار، فيُعَرّف التحرر باعتباره عملية شاملة تتجاوز مجرد طرد القوى الاستعمارية من الأراضي، لتصل إلى مرحلة التخلص من شوائب الاستعمار الفكرية والسياسية.
إنه يشمل "التخلص من الاغتراب" الذي زرعته هذه القوى في نفوس الشعوب المستعمَرة، وكذلك التخلص من شعور العجز الثقافي والأنطولوجي المزروع داخلها؛ إذ كان الاستعمار، بكل مظاهره، يشوه الثقافة الأصلية، ويُقْنِع المستعمَرين بأن لغتهم وثقافتهم ليست سوى عوائق في طريق التقدم.
لذا، فإن عملية التحرر تتطلب التخلص من هذا الاغتراب عبر استعادة الفخر بالهوية والثقافة الأصلية، وهو ما يتطلب تمردًا فكريًّا ضد الهيمنة الغربية.
وفي ذات الإطار، يمكن الاستشهاد بماريز كوندي، وهي مفكرة نسوية ديكولونيالية، حيث تقول إن هذا الفكر الكولونيالي الحداثوي هو الذي أدّى إلى تعليمنا احتقار لغتنا الأمّ وثقافتنا الأصلية، وأصبحنا نفكّر في ذواتنا نسبة إلى الغرب.
فالأمر يتعلّق، إذن، بالتّخلّص من الاغتراب الذي ظلّ قائمًا لأنّ علاقات الهيمنة لا تزول بمجرّد أن يستعيد شعب ما أرضه، ويقيم دولته ويبني أمّته.
ويضرب فانون مثالًا حيًّا أعتقد أنه ما زال قائمًا إلى الآن، على أقل تقدير في مجتمعاتنا العربية والمغاربية على وجه الخصوص فيما يتعلق بالهيمنة الثقافية الكولونيالية، فيقول: "المشكلة التي نواجهها في هذا السياق هي أن الزنجي أو "النيغرو" في جزر الأنتيل سيصبح أكثر بياضًا -أي سيقترب من أن يكون كائنًا إنسانيًّا حقيقيًّا- بنسبةٍ مطردةٍ مع إتقانه اللغة الفرنسية".
الديكولونيالية الجمالية: مواجهة الاستعمار الثقافي
أحد الأبعاد الأساسية التي تتناولها الديكولونيالية هو النقد الجذري للجماليات الكولونيالية، التي فرضها الغرب على الشعوب المستعمَرة. كما يعبر عن ذلك بادرو بابلو غوماز، حيث إن الجماليات الكولونيالية لا تقتصر على الأفكار والفنون الغربية فحسب، بل تقوم على هيمنة معايير ثقافية تهدف إلى تصنيف ما هو "جميل" وما هو "قبيح" وفقًا لمعايير عنصرية، تعكس السيطرة الثقافية الغربية.
ومن هنا، يتضح أن تجاوز هذه المعايير يتطلب نهجًا نقديًّا يعيد بناء مفهوم الجمال والفن من منطلقات ثقافية محلية، بعيدًا عن تلك التي رسخها الاستعمار.
وبذلك، فإن "الديكولونيالية الجمالية" لا تقتصر على مجرد نقد لهذا التصنيف، بل تسعى أيضًا إلى إعادة اكتشاف الفنون والأشكال الجمالية، التي كانت موجودة في الثقافة المحلية قبل أن تفرض عليها النظم الاستعمارية معايير غربية.
وفي هذا السياق، تكشف الديكولونيالية الجمالية عن عمق العلاقة بين الثقافة والفكر الاستعماري. فالفن – كما يرى العديد من المفكرين- لم يكن مجرد وسيلة للتعبير، بل كان أيضًا أداة من أدوات الاستعمار الثقافي، التي جُعلت لتكريس الهيمنة الأوروبية؛ إذ كان الاستعمار يسعى إلى تمييز "الفن الأوروبي" عن "الفن غير الأوروبي"، معتبرًا الأول معيارًا للجمال والثقافة الإنسانية، بينما كان يصنِّف الآخرين كـ "بدائيين" أو "غير حضاريين".
وبالتالي، تسعى الجماليات الديكولونيالية إلى إعادة فهم وتقدير الفنون غير الغربية التي تم إقصاؤها بسبب هذا التصنيف الاستعماري.
يمكن للديكولونيالية أن تكون بمثابة حجر الزاوية في بناء مجتمعات متحررة، سواء على الصعيد السياسي أو الثقافي أو الفكري. حيث تسعى إلى استعادة الوعي بالذات، وتحرير العقل من التصورات الغربية المفروضة، والتأكيد على أن التنوع الثقافي ليس عائقًا بل هو مصدر قوة
المعرفة الديكولونيالية: فك الارتباط المعرفي بالغرب
أحد أعظم التحديات التي تطرحها الديكولونيالية، هو إعادة بناء المعرفة بعيدًا عن السياقات الغربية؛ إذ إن الكثير من الأنظمة المعرفية والتصورات، التي يتم تدريسها في الجامعات والمراكز العلمية، تأتي محملة بنظرة استشراقية تسعى إلى التأكيد على تفوق الغرب على بقية العالم.
وكما أشار العديد من المفكرين، بمن في ذلك فتحي المسكيني، فإن العالم غير الغربي لا يزال يعاني من الهيمنة الفكرية الغربية، حيث يتم فرض مفاهيم ونظريات مستمدة من المنظور الغربي وتقديمها كمعايير عالمية. وبالتالي، تصبح عملية إعادة بناء المعرفة الديكولونيالية ضرورة ملحة، حيث يتطلب هذا التحدي نقدًا للمفاهيم التي يتم تصديرها من الغرب، وتقبلها كحقائق لا يمكن المساس بها.
في هذا السياق، يتعين على الشعوب غير الغربية أن تعيد التفكير في تاريخها وعلومها وفنونها، بعيدًا عن الصور النمطية التي فرضها الاستعمار، كما يجب أن تكون المعرفة الديكولونيالية عملية فكرية قائمة على نقد الموروث الاستعماري، مع التركيز على الأصوات والمفاهيم التي تم إقصاؤُها أو تهميشها عبر التاريخ.
وهذه العملية تتطلب رفض المفاهيم المستوردة من الغرب، والتي تم تقديمها كحقائق مطلقة، والعمل على استعادة الفهم المحلي للنظريات والمفاهيم التي تم تجاهلها سابقًا.
وفي هذا الصدد، يمكننا أن نلاحظ أن العديد من الباحثين العرب والشرقيين لا يملكون خيارًا سوى التفاعل مع الأنظمة الأكاديمية الغربية؛ إذ وضّح إدوارد سعيد ذلك في كتابه "الاستشراق"، فأشار إلى أن الباحث العربي أو الشرقي لا يمكنه أن يتجاهل ما يجري في المجلات العلمية والجامعات في الولايات المتحدة الأميركية، أما العكس فليس صحيحًا، ومن ثم يظل الطلاب والأساتذة الشرقيون يتطلعون إلى الجلوس عند أقدام المستشرقين الأميركيين، ليعودوا إلى بلادهم ويرددوا الكليشيهات التي تم تكرارها في السياقات الأكاديمية الغربية، مثل المعتقدات الاستشراقية التي يتم تبنيها على نطاق واسع.
وبالإضافة إلى ذلك، نجد أن المثقفين في العالم العربي أنفسهم يساهمون في نشر الاتجاهات الفكرية التي يعتبرها الغرب رئيسية، إذ فُرض عليهم هذا الدور بحجة أنه يمثل توجهًا "تحديثيًّا".
هذا بدوره يمنح مشروعية لأفكار حول التحديث والتقدم والثقافة، تُستمد غالبيتها من الولايات المتحدة. بل إن هذا التأثير يمتد إلى المثقفين الراديكاليين الذين يتبنون الماركسية، حتى من منظور ماركسي ينظر إلى "العالم الثالث" وكأنه كيان متجانس.
وبذلك، تظهر النظرة الشاملة لتوافُق فكري حول التصورات والمذاهب التي شكّلت الاستشراق، وهو توافق مدعوم بتبادل اقتصادي وسياسي واجتماعي، بحيث يساهم الشرق الحديث في "تشريق" نفسه عبر الانخراط في هذه الأنظمة الأكاديمية والفكرية، التي تفرضها القوى الاستعمارية الكولونيالية، وذلك وفقًا لإدوارد سعيد.
تستمر الديكولونيالية في طرح الأسئلة الكبرى حول كيفية استعادة هذه الذات المفقودة، وكيفية تجاوز ماضي الاستعمار لتحقيق مستقبل جديد
التحديات الراهنة: هل يمكن الاستقلال عن الغرب؟
تطرح الأسئلة التي يثيرها المثقفون مثل فتحي المسكيني تحديًا هامًّا: هل يمكن للأمم غير الغربية أن تحقّق استقلالًا حقيقيًّا عن الغرب، في ظل الهيمنة الفكرية والسياسية التي ما تزال قائمة؟ هل يمكن لهذه الشعوب أن تتجاوز الغرب أخلاقيًّا، وتحقق تحررًا معرفيًّا حقيقيًّا؟
في هذا السياق، يشير المسكيني إلى أنه "لا جدوى من التفكير ضدّ الغرب طالما نحن نستعير منه المقولات التي ننقده بها"، معبرًا بذلك عن إشكالية الاستقلال الأخلاقي عن الغرب. إذ يرى أن الغرب قد نجح في تنصيب "أبويّة كولونيالية عالميّة" لن يكون "قتل الأب" فيها ممكنًا إلّا بشكل "عائلي". وبالتالي، يصبح التحرر من هيمنة الغرب ممكنًا فقط عندما تتجاوز الأمم غير الغربية التأثيرات التي فرضها الاستعمار الفكري والسياسي.
يتطلب ذلك إعادة صياغة مفهوم الإنسانية والحقوق والمساواة في ضوء القيم المحلية التي تجاوزت هيمنة الثقافة الغربية، وفي إطار بناء مجتمعات ديمقراطية عادلة، غير إمبريالية وغير كولونيالية.
وفي هذا الإطار، يمكن للديكولونيالية أن تكون بمثابة حجر الزاوية في بناء مجتمعات متحررة، سواء على الصعيد السياسي أو الثقافي أو الفكري. حيث تسعى إلى استعادة الوعي بالذات، وتحرير العقل من التصورات الغربية المفروضة، والتأكيد على أن التنوع الثقافي ليس عائقًا بل هو مصدر قوة.
وتستمر الديكولونيالية في طرح الأسئلة الكبرى حول كيفية استعادة هذه الذات المفقودة، وكيفية تجاوز ماضي الاستعمار لتحقيق مستقبل جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.