شعار قسم مدونات

من نابليون إلى الذكاء الاصطناعي: ثروات تُصنع في الظل..!

كيف يؤثر محتوى السفر في وسائل التواصل على خطط الناس للسفر (مولدة من الذكاء الاصطناعي)
في عالم المال والأعمال أحدث التقدم والتطور التكنولوجي والمعلوماتي المتسارع ثورة عارمة في المجال الاقتصادي (مولدة من الذكاء الاصطناعي)

بعنوان "شائعة مقتل نابليون والاحتيال الكبير" ظلت الوثيقة التاريخية لبورصة لندن 1814.02.21 من أكثر الوثائق التي أثارت جدلًا مستمرًا حتى يومنا هذا.

فتلك الوثيقة التي ذكرت وقائعها كتب ومؤلفات، واستُلهمت منها أفلام وروايات، تحكي عن وصول سفينة فرنسية إلى ميناء مدينة "دوفر" (Dover) البريطانية، في الساعات الأولى من صباح يوم الاثنين، الحادي والعشرين من شهر فبراير/ شباط 1814، وعلى متنها رجل يرتدي زيًا رسميًا، ادّعى أنه أحد مساعدي الجنرال "ويليام كاثكارت" (William Schaw Cathcart)، السفير والمفوض العسكري للحكومة الإنجليزية في روسيا القيصرية، وفي جعبته معلومات في غاية الأهمية، مفادها أن نابليون بونابرت (Napoléon Bonaparte) قد قتل على يد القوزاق الروس.

من شائعة مقتل نابليون وقصة الاحتيال الكبير، مرورًا بآلاف الاحتيالات المالية في البورصات والأسواق العالمية حتى يومنا هذا، هنالك قوم لغتهم الخوارزميات واللوغارتيمات، وإلى جانبهم روّاد المال والأعمال

انتشر الخبر كالنار في الهشيم، ولتعزيز تلك الرواية شوهد ثلاثة رجال يرتدون زي الجيش الملكي الفرنسي (بوربون)، يرقصون ويحتفلون في شوارع لندن، وهو ما أدى إلى ارتفاع قيمة الأوراق المالية الحكومية، ونتيجة لذلك سارع التجار والوسطاء إلى شراء الأسهم المعروضة بأضعاف سعرها.

لكن، ومع انتهاء ذلك اليوم دون صدور تأكيد رسمي للأخبار، انهارت أسعار السندات الحكومية وتراجعت قيمتها، وأيقن الجميع أن المستثمرين العاديين قد وقعوا ضحية لخدعة متقنة، تبخرت معها آلاف الجنيهات.

إعلان

في اليوم التالي اجتمعت لجنة البورصة، وشكلت لجنة فرعية للتحقيق في هذه الحادثة، لتعلن الأخيرة عن اشتباهها بأن هنالك تلاعبًا في الأسهم، وعلى إثر ذلك تمت إدانة عدد من الأشخاص كان أبرزهم اللورد "توماس كوكرين" (Tomas Cochrane)، الذي كان يتمتع بشعبية جماهيرية كبيرة آنذاك.

فيما لا تزال إدانته موضوع نقاشٍ مستمرٍ بين من يعتقد بأنه مذنب، ومحتال متلاعب بالبورصة، وبين من يرى أن قضية الاحتيال كانت مكيدة دُبرت بليل، استغلها أعداؤه من النافذين في مجلس العموم والحكومة، وأدت إلى طرده من البرلمان البريطاني، وتجريده من رتبته العسكرية كأميرال، وفصله من البحرية الملكية، وأنه قاد نضالًا طويلًا لاستعادة سمعته المتضررة وتبرئة اسمه، متهمًا اللورد "إلينبورو" (Ellenborough)، القاضي الذي ترأس قضيته، بالانحياز والتحريف والظلم والقمع، وأن مناصريه أعادوا انتخابه للبرلمان بعد احتجاج شعبي عام، وأنه بحلول العام 1832م تم منحه عفوًا، وشمل ذلك إعادة رتبته وأوسمته.

ومن شائعة مقتل نابليون وقصة الاحتيال الكبير، مرورًا بآلاف الاحتيالات المالية في البورصات والأسواق العالمية حتى يومنا هذا، هنالك قوم لغتهم الخوارزميات واللوغارتيمات، وإلى جانبهم روّاد المال والأعمال، يرسمون لنا مشهدًا مفاده أنه ومع مطلع الألفية الثالثة أدى التطور المستمر في عالم التكنولوجيا إلى تحرر التقنيات والأنظمة المعلوماتية من التكاليف المادية المرتفعة، التي كانت تعيق التقدم التكنولوجي في جميع المجالات.

لقد أظهر الجيل الجديد من النماذج التي يمثلها الذكاء الاصطناعي التوليدي قدرات خارقة، وتغيّرت معه ملامح التجارة العالمية كما تعرفها البشرية

وفي عالم المال والأعمال أحدث التقدم والتطور التكنولوجي والمعلوماتي المتسارع ثورة عارمة في المجال الاقتصادي، أدت إلى مراجعة النظريات والمسلمات والمفاهيم الاقتصادية التي كانت قد ترسخت واستقرت منذ زمن، وخلقت بعدًا جديدًا لاقتصادات الدول، أعادت فيه تشكيل الأسواق العالمية من جديد؛ حيث أدَّى تضخم قواعد البيانات، وتقادمها مع الأنظمة المعلوماتية المستخدمة بشكل متسارع، وظهور الحوسبة السحابية والكمومية، إلى ازدهار الصناعة المالية التي نتج عنها سلسلة من التحولات في النظام المالي العالمي.

إعلان

ولقد أظهر الجيل الجديد من النماذج التي يمثلها الذكاء الاصطناعي التوليدي قدرات خارقة، وتغيرت معه ملامح التجارة العالمية كما تعرفها البشرية.

فعلى سبيل المثال -وبعكس طرق التداول التقليدية المعتمدة بشكل كبير على القرار البشري- ظهرت منصات تداول، تعتمد على نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، ومن خلال التعلم الآلي، والتعلم الخاضع للإشراف والتعلم العميق، تقوم الخوارزميات بمعالجة وتحليل كميات هائلة من البيانات المالية المعقدة، مثل تحركات الأسعار والمؤشرات الاقتصادية، وتحديد الأنماط، والتنبؤ بالسوق في الوقت الفعلي بعد قياس حركة السوق، وإجراء مسح لأسواق وبورصات متعددة، ووصولًا إلى رصد تفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي بواسطة خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية (NLP)، لاكتشاف الفرص الاستثمارية والتجارية الجديدة بسرعة فائقة، واتخاذ القرارات نيابة عن المتداولين، الذين ينتمي غالبيتهم للشركات التجارية والمؤسسات المالية التجارية والاستثمارية الكبرى وشركات التأمين وصناديق الأسهم الخاصة، وتمكينهم من تنفيذ ملايين الطلبات، وعقد الصفقات التجارية المربحة في أجزاء من الثانية.

وهذا ما أقرَّت به التقارير الاقتصادية للهيئات المالية العالمية الرائدة؛ حيث أفادت بأن ذلك التطور قد أحدث تغييرات عميقة في بنية الأسواق العالمية، ومكن المؤسسات المالية من تحديث إستراتيجياتها الاستثمارية، وتحسين الكفاءة وزيادة الإنتاجية وحمايتها من الهجمات السيبرانية.

وكانت شركة ماكينزي (McKinsey & Company) قد أكدت في تقريرها الصادر في يونيو/ حزيران 2023، أن أحدث أبحاثها يقدر أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن يضيف للاقتصاد العالمي ما يعادل 2.6 تريليون دولار إلى 4.4 تريليونات دولار سنويًا.

نصيب الأسد من تلك الثروات غير المشروعة تؤول للمؤسسات الكبرى التي تمتلك التكنولوجيا المتقدمة، مستخدمة في ذلك نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي والبيانات الهائلة (Big Data) لفرض سلطتها وتعزيز سيطرتها على السوق

لكن وبرغم الصورة المتفائلة، التي يرسمها لنا صناع عالم المال والأعمال ورواد التكنولوجيا للمستقبل المزدهر الذي ستكون عليه البشرية، هنالك مشهد آخر يحكي أن الاقتصاد العالمي على اختلاف أشكاله وألوانه تعتريه حالة من عدم اليقين، وأن هنالك ثروات هائلة غير مشروعة تصنع في الظل، جزء منها يذهب لصناع السياسات التشريعية من أصحاب النفوذ في الدول والحكومات. وهذا ما أكدته مراكز ومؤسسات بحثية كثيرة، ذات تصنيف أكاديمي عالٍ، وإلى جانبها أشهر وكالات الأنباء العالمية الموثوقة.

إعلان

فعلى سبيل المثال، حينما قرَّرَ السياسيون الأميركيون جعل التداول من الداخل جريمة لعامة الناس والمستثمرين من القطاع الخاص، فقد قرّروا أيضًا حتى وقت قريب أنّ التداول من الداخل يجب أن يكون قانونيًا لأعضاء الكونغرس؛ وهذا يعني أن نخبة السياسيين يمكنهم كسب ملايين الدولارات بناء على المعلومات الداخلية التي تعلموها من خلال سن القوانين، أو استخدام سيطرتهم على سن القوانين واللوائح التنظيمية لتحقيق الربح الشخصي، بينما يذهب جزء آخر من تلك الثروة للعصابات الإجرامية الاقتصادية الدولية، التي تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي للتزييف العميق، ولتنفيذ أنشطة احتيالية للإضرار بالتجارة الإلكترونية العالمية عن طريق تحديد نقاط الضعف في النظام المالي، وللتلاعب بالبيانات واستهداف البنوك والمؤسسات المالية بالهجمات السيبرانية، وغسل الأموال وتمويل الأنشطة غير المشروعة عبر الإنترنت، والتداول الوهمي باستخدام التقنيات الناشئة مثل منصات الدفع الجديدة والعملات المشفرة، وإجراء معاملات معقدة ومتعددة الطبقات يصعب اكتشافها.

أما نصيب الأسد من تلك الثروات غير المشروعة فتؤول للمؤسسات الكبرى التي تمتلك التكنولوجيا المتقدمة، مستخدمة في ذلك نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي والبيانات الهائلة (Big Data) لفرض سلطتها وتعزيز سيطرتها على السوق، بل وفي تحديد قواعد اللعب، وهو ما يؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها مثل انحياز السوق، أو خنق الابتكار لقطع الطريق أمام المنافسة العادلة، وكذا استغلال الفروقات الزمنية الضئيلة بين الأسواق، واستخدام منصات التداول الكمي والتداول عالي التردد، للتلاعب بأسواق الأوراق المالية والعقود الآجلة، والإخلال بنزاهة وشفافية وعدالة السوق، وانتهاك مصالح المتداولين، وهذا ما تتهم به غالبًا صناديق التحوط، التي أُسست لأول مرة في منتصف القرن العشرين، والبنوك والشركات الاستثمارية الكبرى.

برغم ما يمكن أن نسميه بأمية رجال العدالة الجنائية وإنفاذ القانون تجاه تلك الجرائم، هنالك من يقلل من شأن هذا الطرح، ويشير إلى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي، وخوارزميات التعلم الآلي والتعلم العميق والمعزز، أحدثت تغييرات كبيرة في مجال الطب الشرعي الرقمي لتحقيق تحليل أسرع وأكثر دقة للبيانات

كما أنّ هنالك من يستخدم تلك التقنيات لسحق السوق والتلاعب به أو تعطيله، من خلال السلوك المضلل في عمليات العرض والطلب، وتحريك الأسعار بشكل مصطنع لإجبار المستثمرين على اتخاذ قرارات معينة، ناهيك عن التداول من الداخل، والإفصاح غير القانوني عن المعلومات المهمة، وتداول المعلومات غير المعلن عنها بهدف إحداث تقلبات عنيفة في الأسواق المالية، لتأتي مؤخرًا الروبوتات والخوارزميات بتحيزاتها وقراراتها الخاطئة، التي تتم بطريقة الصندوق الأسود فتزيد الطين بلة، لتكون النتيجة انهيارات في الأسواق المالية، تبخّرت فيها عشرات المليارات من القيمة السوقية.

إعلان

يبقى المشهد الأكثر قتامة وسوداوية ما يرويه رجال العدالة الجنائية وإنفاذ القانون؛ حيث يقول تشيان لي يانغ، المدعي العام السابق في النيابة الشعبية العليا الصينية، والمحامي ذائع الصيت في مجال الجرائم الاقتصادية، إن القضايا الجنائية المتعلقة بقطاع الاقتصاد -بما في ذلك بورصات الأوراق المالية، والعقود الآجلة، ومنصات التداول، والبنوك والصناديق والتأمين والاستثمارات، ومجالات متخصصة عديدة- لا تشكل تحديًا للمحامين فحسب، بل أيضًا للنيابة العامة والقضاة والشرطة، لكونها تحمل حواجز مهنية متأصلة، وعلاوة على ذلك فإن ترجمة العلاقات المالية إلى قانون جنائي أصعب من ترجمة الإنجليزية إلى الصينية.

لكن، وبرغم ما يمكن أن نسميه بأمية رجال العدالة الجنائية وإنفاذ القانون تجاه تلك الجرائم، هنالك من يقلل من شأن هذا الطرح، ويشير إلى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي، وخوارزميات التعلم الآلي والتعلم العميق والمعزز، أحدثت تغييرات كبيرة في مجال الطب الشرعي الرقمي لتحقيق تحليل أسرع وأكثر دقة للبيانات، ومعالجة كميات كبيرة من البيانات في وقت قياسي، وتحديد الأنماط، وتحليل الأدلة الرقمية، واكتشاف الحالات الشاذة، والتعرف على الهويات بطرق كانت تعتبر مستحيلة في السابق، وأن تقنيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي تؤدي دورًا حاسمًا ومهمًا في تسريع وتعزيز وتحسين كفاءة أعمال التحقيق في الجرائم المالية الإلكترونية، كما مكنت السلطات الرقابية وسلطات إنفاذ القانون من استخراج المعلومات ذات الصلة بتلك الجرائم، وفك التشفير وإعادة بناء الأحداث ومحاكاتها باستخدام الأدلة الرقمية، لفهمها وتحليلها للوصول إلى إثبات تلك الجرائم أو دحضها.

يثبت الواقع العملي أن ميزان العدالة ما زال مختلًا، ويميل دائمًا لكفة المتفوق في المجال التقني والتكنولوجي، فإن من تناله يد العدالة في هذا المجال بالذات هم الأكثر هشاشة، ومن تعتريه حالات من عدم اليقين

لكن وبينما الأمر كذلك، ثمة من يستخدم مصطلحًا سحريًا له بريقه ووجاهته، لتحييد أي نقاش يمكن أن يضعه تحت طائلة المساءلة والمحاسبة، هذا المصطلح هو "الخوارزميات"، التي قال عنها بانوس لوريداس (Panos louridas) إن ثمة مغزى من وصف الخوارزميات بأنها أقرب إلى الآلهة، ففي أغلب الأحيان تكون في منأى عن المساءلة مثل الآلهة، فالأشياء التي تحدث ليست بسبب قدرة البشر ولكن لأن من قرر حدوثها خوارزمية، والخوارزمية فوق مستوى المساءلة.

إعلان

أخيرًا -ومن بين كل المشاهد- يطغى في حقبتنا هذه الحدث الأهم، الذي سيظل لفترة طويلة من الزمن محل تجاذبات وتكهنات حول حقيقة ما جرى ويجري على قدم وساق، فمنذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض محاطًا بجوقة من الأثرياء ورجال الأعمال، أدت قراراته وتصريحاته التي أغضبت الدول الحليفة والمنافسة للولايات المتحدة الأميركية على حد سواء إلى تلاشي تريليونات الدولارات من الأسواق الأميركية، ولا أحد يعرف بالضبط ما الذي يحدث.

فبينما يقول مؤيدوه إن التاجر البارع ورجل الأعمال الذكي سيعيد أميركا عظيمة من جديد، وإن ذلك يتطلب بناء مؤسسات جديدة وهدم مؤسسات قائمة، وما يحدث في الأسواق هو أمر طبيعي.. بينما يُقال ذلك يهمس خصومه معتبرين أن ما يحدث قد دُبر بليل، وأن الضجيج والأزمات السياسية العاصفة سهلت من تبخر واختفاء تلك الأموال الضخمة لمصلحة أطراف معينة، كما اختفى تشارلز دي بيرنجر (Charles de Berenger)، الذي أشاع خبر مقتل نابليون، ومعه من خطط ودبر، وبحوزتهم ثروة قدرت قيمتها وفقًا لقيمة الجنيه الإسترليني في وقتنا الحاضر بخمسين مليون جنيه إسترليني.

وفيما يثبت الواقع العملي أن ميزان العدالة ما زال مختلًا، ويميل دائمًا لكفة المتفوق في المجال التقني والتكنولوجي، فإن من تناله يد العدالة في هذا المجال بالذات هم الأكثر هشاشة، ومن تعتريه حالات من عدم اليقين.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان