شعار قسم مدونات

مصير الأسد.. المحاكمة أم شيخوخة هادئة في بارفيخا؟

FRANCE - JULY 12: Lebanese President Michel Sleiman, Qatari Emir Hamad Bin Khalifa Al Thani, French President Nicolas Sarkozy And Syrian President Bashar Al-Assad Attend A Press Conference At The Elysee Palace On The Eve Of Paris, In Paris, France On July 12, 2008 - Lebanese president Michel Sleiman, Qatari Emir Hamad Bin Khalifa Al Thani, French president Nicolas Sarkozy and Syrian President Bashar Al-Assad attend a press conference at the Elysee Palace on July 12, 2008 in Paris, on the eve of the Paris summit of the Mediterranean countries - Leaders from some 40 countries -- rich and poor, foes and friends -- meet in Paris on Sunday to launch the Union for the Mediterranean, a flagship project of Nicolas Sarkozy. (Photo by Pool BENAINOUS/HOUNSFIELD/Gamma-Rapho via Getty Images)
الكاتب: مصير الأسد الذي مضى على سقوطه 5 أشهر لا يزال مجهولًا وسط تكهنات عن احتمالية تسليمه في إطار المفاوضات الجارية بين موسكو ودمشق (غيتي)

منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأوّل 2024، الذي دخلت فيه قوات المعارضة السورية إلى دمشق، وسقوط نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، بعد عقود ذاق فيها الشعب السوري ألوانًا من الانتهاكات، وارتكاب الكثير من الجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، طفا على مسرح الأحداث الكثير من التساؤلات التي تتعلق برأس النظام البائد، الذي حظي بلجوء سياسي إلى روسيا.

مبعث هذه التساؤلات ينبع من أن الحكومة الروسية لها سوابق عديدة في التعامل مع الأنظمة التي ثارت عليها شعوبها، وأوى إليها حكامها بعيدًا عن قبضة القانون ومنصة العدالة.

وهو الأمر الذي ينسحب على الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وما يتعلق بمصيره، خصوصًا في الآونة الأخيرة التي يجري الحديث فيها حول إمكانية تسليمه إلى السلطات الجديدة في دمشق، لتتم محاكمته وتقديمه إلى العدالة.. وهو ما يتوجب الوقوف عنده لتبيان إمكانية ذلك، وهل سيكون أول سابقة للقيادة الروسية، المعروف عنها أنها لا تتخلى عن حلفائها؟

بعد فراره إلى روسيا، إثر احتجاجات شعبية عرفت باسم "ثورة الميدان الأوروبي"، حُوكم ياناكوفيتش غيابيًا، وأصدرت الحكومة الأوكرانية مذكرة اعتقال بحقّه، متهمة إياه بالمسؤولية عن قتل المتظاهرين، والخيانة العظمى، والتحريض على العدوان الروسي على أوكرانيا

الحليف الأوكراني في بارفيخا

تقع بلدة بارفيخا الخلّابة على مشارف موسكو، وتحيط بها غابات الصنوبر. لا تحتوي أبنية عالية أو بيوتًا متواضعة، إذ تضم منتجعًا صحيًا يمتلكه فلاديمير بوتين، إلى جانب العديد من البيوت الفارهة المملوكة للنخب الروسية.

إعلان

وتعدّ بارفيخا أيضًا موطنًا للعديد من السياسيين الذين حصلوا على حق اللجوء في روسيا، ومن بينهم زعماء سابقون ليوغسلافيا وقرغيزستان وأوكرانيا وجورجيا. هناك، يقيم كذلك الرئيس الأوكراني المخلوع فيكتور ياناكوفيتش، الذي منحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حق اللجوء، إثر الإطاحة به عام 2014.

كان ياناكوفيتش من أبرز الحلفاء المقرّبين لموسكو، حيث منح روسيا مجموعة من الامتيازات الاقتصادية والسياسية التي عززت نفوذها الإقليمي في أوكرانيا، بما في ذلك توقيع اتفاقية تضمنت تمديد عقد إيجار ميناء سيفاستوبول حتى عام 2042، والسماح بوجود نحو 25 ألف جندي روسي في القاعدة العسكرية في سيفاستوبول ومحيطها، مع الاحتفاظ بقاعدتين جويتين لروسيا في شبه جزيرة القرم.

علاوة على ذلك، عارض يانوكوفيتش تقارب أوكرانيا مع الاتحاد الأوروبي، واتبعت سياساته نهجًا أبطأ في مسار انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، بما يتماشى مع الأهداف الإستراتيجية الروسية.

على غرار نظيره الأوكراني، مارس الرئيس المخلوع بشار الأسد دورًا محوريًا في تعزيز نفوذ موسكو الجيوسياسي في الشرق الأوسط؛ فقد أتاح للأسطول العسكري الروسي استخدام قاعدة حميميم الجوية دون مقابل ولأجل غير مسمّى، ووقّع اتفاقًا يسمح بتوسيع المنشأة البحرية في طرطوس لمدة 49 عامًا، مع منح روسيا ولاية قضائية سيادية على القاعدة.

وقد ساهمت هذه الخطوات في تحويل الساحل السوري إلى محور إستراتيجي في البنية اللوجيستية للنشاط العسكري والبحري الروسي، خصوصًا باتجاه البحر المتوسط والقارة الأفريقية.

كذلك منح الأسد موسكو مجموعة من العوائد الاقتصادية التفضيلية، شملت عقودًا حصرية للتنقيب عن النفط والغاز في الساحل السوري، إضافة إلى فرص استثمارية واسعة في قطاعات الطاقة والكهرباء والمصارف وغيرها. و​​من الناحية السياسية، مثّل الأسد نقطة ارتكاز أساسية مكّنت روسيا من إعادة تموضعها كلاعب مؤثر في الإقليم، على حساب النفوذ الغربي.

إعلان

بعد فراره إلى روسيا، إثر احتجاجات شعبية عرفت باسم "ثورة الميدان الأوروبي"، حُوكم ياناكوفيتش غيابيًا، وأصدرت الحكومة الأوكرانية مذكرة اعتقال بحقه، متهمة إياه بالمسؤولية عن قتل المتظاهرين، والخيانة العظمى، والتحريض على العدوان الروسي على أوكرانيا.

مع ذلك رفض بوتين بشكل قاطع تسليم حليفه للمحاكمة. كان مصير ياناكوفيتش على عكس توقعات الشعب الأوكراني؛ إذ يتمتع اليوم -بعد مضي 11 عامًا على خلعه- بحياة هادئة في عقار فاخر اشتراه في بارفيخا بقيمة 52 مليون دولار.

أما مصير الأسد، الذي مضى على سقوطه 5 أشهر، فلا يزال مجهولًا وسط تكهنات عن احتمالية تسليمه في إطار المفاوضات الجارية بين موسكو ودمشق.

يؤكد الدبلوماسي الروسي السابق والأكاديمي فيتشيسلاف ماتوزوف أن تسليم الأسد لا يُعد خرقًا لقيم السياسة الخارجية الروسية فحسب، بل يشكل كذلك تهديدًا لتحالفاتها طويلة الأمد، لا سيما في القارة الأفريقية

تسليم الحليف السوري، خرق غير مسبوق للأعراف الدبلوماسية الروسية

  • هل ستسلم روسيا الأسد؟
  • "مستحيل".

بهذه الكلمة الحاسمة، عبّر الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين، المعروف بلقب "عقل بوتين"، عن رفض موسكو القاطع فكرةَ تسليم الرئيس السوري المخلوع.

ويُرجع دوغين هذا الموقف إلى التزام موسكو العميق بمبادئها الإستراتيجية، ووفائها بالتزاماتها تجاه حلفائها السياسيين. وأضاف أن "روسيا تحترم كلمتها بشدة"، وبالتالي فإن تراجعها عن منح حق اللجوء للأسد يتنافى مع العقيدة السياسية الروسية القائمة على مبدأ "دعم الحلفاء"، بوصفه خيارًا إستراتيجيًا لا يخضع للتقلبات السياسية.

ويؤكد الدبلوماسي الروسي السابق والأكاديمي فيتشيسلاف ماتوزوف أن تسليم الأسد لا يُعد خرقًا لقيم السياسة الخارجية الروسية فحسب، بل يشكل كذلك تهديدًا لتحالفاتها طويلة الأمد، لا سيما في القارة الأفريقية.

فقد استثمرت روسيا في العديد من الأنظمة الاستبدادية هناك، بما في ذلك أنظمة مالي وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى، وقدمت لها الدعم العسكري لمواجهة الجماعات المتمردة، مقابل حصولها على امتيازات اقتصادية وجيوسياسية، بما في ذلك عقود حصرية لاستغلال الموارد الطبيعية مثل الذهب واليورانيوم، وتسهيلات عسكرية تعزز وجودها في مناطق إستراتيجية.

إعلان

بقاء الأسد في دائرة الحماية الروسية بعد سقوطه يشجع قادة الأنظمة الأفريقية الحليفة على التعاون مع روسيا، لا سيما أنها أنظمة هشة مهددة بالانهيار في أي لحظة. في حين أن تسليمه قد يحمل مخاطر فقدان ثقة وولاء حلفاء موسكو الحاليين والمحتملين.

في هذا السياق، فإن بقاء الأسد في شقته الفاخرة في "موسكو سيتي"، لا يعتبر "مكافأة نهاية خدمة"، إنما يحمل بعدًا رمزيًا يعزز سمعة روسيا كحليف موثوق، ويبعث رسالة للحلفاء مفادها: تستطيعون الثقة بموسكو، فهي تقف بجانبكم عند تقاطع المصالح، وتضمن لكم تقاعدًا كريمًا عندما تتغير موازين القوى.

حسب تعبير آنا بورشفسكايا من معهد واشنطن، "لا يزال لدى روسيا الكثير لتقدمه لسوريا"، سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي أو الدبلوماسي

الأسد ورقة مساومة هامشية

على الرغم من التزام روسيا بمبدأ "حماية الحلفاء"، فإن خسارة قواعدها العسكرية في سوريا تعتبر ضربة لمكانتها الجيوسياسية في الإقليم، وهزيمة يصعب على موسكو تقبلها. وعليه، يعتقد البعض أن خيار تسليم الأسد قد يبقى مطروحًا في إطار صفقة شاملة بين موسكو ودمشق.

ينفي ألكسندر دوغين مجددًا هذا الاحتمال، مؤكدًا أن روسيا لن تسلم -تحت أي ظرف- اللاجئين إليها، إذ إن المقايضة بهذا الشكل تزعزع مكانة روسيا على الساحة الدولية، موضحًا: "هناك أمور لا تتفاوض عليها الدول العظمى".

كذلك من غير المقبول أن تعطي روسيا انطباعًا وكأنها تلقت ضغوطًا من حكومة ناشئة، لتتراجع عن قرار سبق واتخذته، ووفقًا لدوغين: "لا يوجد أي مبرر إستراتيجي أو عسكري أو اقتصادي من الممكن أن يعوض الخسارة في السمعة الدولية".

بعيدًا عن حسابات السمعة الدولية، تهيمن المصالح الإستراتيجية على منطق العلاقات الدولية، متجاوزة الاعتبارات الإنسانية، وبناء عليه يظل احتمال تسليم الأسد في إطار المفاوضات أمرًا مستبعدًا.

حسب تعبير آنا بورشفسكايا من معهد واشنطن، "لا يزال لدى روسيا الكثير لتقدمه لسوريا"، سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي أو الدبلوماسي.

إعلان

فقد سبق أن عبر الرئيس الشرع في لقاء له مع صحيفة نيويورك تايمز عن انفتاح سوريا على شراء أسلحة إضافية من روسيا، وأن التعاون الدفاعي مع موسكو لا يزال قائمًا، وذكر أن روسيا لا تزال شريكًا أساسيًا لسوريا ليس فقط في المجال العسكري، بل أيضًا في قطاعات الغذاء والطاقة. كما أكد أن لموسكو دورًا هامًا في دعم استقرار سوريا على الساحة الدولية، لكونها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن.

على صعيد آخر، من الممكن أن تقوم روسيا بشطب الديون المترتبة على الخزينة السورية كبادرة حسن نية، كما فعلت سابقًا مع بعض الدول الأفريقية. كذلك قد تقوم بتقديم تعويضات مالية مباشرة للحكومة الجديدة، فضلًا عن إمكانية استثمارها في مشاريع إعادة الإعمار.

من ناحية أخرى، لا شك أن تسليم الأسد يُعد مكسبًا سياسيًا كبيرًا لحكومة الشرع، من شأنه أن يمنحها دفعة قوية نحو تعزيز شرعيتها الداخلية. مع ذلك من غير المرجح أن يشكّل هذا الملف عائقًا كبيرًا أمام إعادة العلاقات مع موسكو، نظرًا لحجم المصالح التي تجمع البلدين.

كذلك، تواجه دمشق اليوم جملة من التحديات المعقدة، من أبرزها ملفات إعادة الإعمار، وتخفيف العقوبات، وتحقيق العدالة الانتقالية، فضلًا عن التعامل مع المخاطر الأمنية المتصاعدة. وفي خضم التركيز على هذه القضايا الملحة، قد تغدو محاكمة الأسد ملفًا هامشيًا، ومن الممكن أن تفقد المطالبة بتسليمه زخمها مع الوقت.

عودة الأسد للرئاسة أمر محال بلا شك. فمن ناحية، نستطيع أن نقول إن موسكو على وفاق حاليًا مع الحكومة الجديدة، كما أن الأسد الذي استحق كره الشعب السوري فقد شعبيته حتى في أوساط مؤيديه، بعد أن فر هاربًا وتركهم يواجهون مصيرهم وحدهم

عودة للنشاط السياسي أم شيخوخة هادئة في بارفيخا؟

مع استبعاد احتمالية تسليمه، من الممكن التكهن بالمصير النهائي للأسد من خلال المقارنة مع ظروف اللاجئين السابقين لدى روسيا.

عبر تاريخها، منحت موسكو اللجوء السياسي والإنساني للعديد من الشخصيات المثيرة للجدل، سواء كانوا قادة سياسيين مهددين في بلدانهم أو رؤساء أطاحت بهم ثورات شعبية، ولم تتخلَّ يومًا عن أي منهم.

من بينهم من اعتزل الحياة السياسية واندمج بالمجتمع المدني، مثل رئيس قرغيزستان السابق، عسكر أكاييف، الذي أطاحت به ثورة التوليب عام 2005، ليمنحه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حق اللجوء.

إعلان

وعلى الرغم من اتهامه بسرقة ملايين الدولارات وأكثر من 1.5 طن من الذهب، رفضت روسيا تسليمه للمحاكمة في بلاده، وسمحت له بمتابعة عمله الأكاديمي في الرياضيات التطبيقية، حيث أصبح عضوًا في الأكاديمية الروسية للعلوم، ونشر أكثر من 150 عملًا علميًّا، بينها 15 كتابًا.

من غير المرجح أن يتبع الأسد نفس الطريق الذي سار عليه أكاييف، فهو طبيب عيون غير مهني، ولا يمتلك أي مؤهلات تعود بالنفع على المجتمع الروسي.

بعض اللاجئين فضل مواصلة العمل السياسي، مثل رجل الاستخبارات الجورجي السابق إيغور غيورغادزه، الذي لجأ إلى روسيا بعد تورطه في محاولة اغتيال الرئيس إدوارد شيفرنادزه عام 1995. ومن هناك واصل نشاطه السياسي، حيث أسس التحالف الوطني الجورجي عام 2001، ثم أصبح زعيمًا لحزب "العدالة" عام 2003.

لن يلقى الأسد هذا المصير كذلك، إذ تم منحه اللجوء الإنساني، وهو ما يمنعه من ممارسة أي نشاطات سياسية وفقًا لما أكده الدبلوماسي الروسي السابق، ماتوزوف.

أقرب الاحتمالات، هي أن يقضي الأسد تقاعدًا مريحًا على غرار ياناكوفيتش، سواء في شقته في موسكو سيتي، أو في واحدة من البلدات النخبوية مثل بارفيخا. هناك قد يمنح الأسد حرية التنقل، أو ربما يفرض عليه الكرملين نوعًا من الإقامة الجبرية.

أما احتمالية التعويم السياسي للأسد فهي مستحيلة. سبق أن قدمت موسكو اللجوء لرئيس البرلمان الطاجيكي إمام علي رحمون، الذي فر إلى روسيا عام 1992 في فترة الحرب الأهلية، لكنه عاد إلى بلاده عام 1994 وأصبح رئيسًا لطاجيكستان، منذ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة.

عودة الأسد للرئاسة أمر محال بلا شك. فمن ناحية، نستطيع أن نقول إن موسكو على وفاق حاليًا مع الحكومة الجديدة، كما أن الأسد الذي استحق كره الشعب السوري فقد شعبيته حتى في أوساط مؤيديه، بعد أن فر هاربًا وتركهم يواجهون مصيرهم وحدهم.

إعلان

كما خسر جميع أوراقه السياسية -إقليميًا ودوليًا- بسبب تعنته ورفضه التوصل لأي نوع من التسويات السياسية، والرعونة التي جعلته يتصور أن الصراع انتهى لصالحه، ما منعه من بناء علاقات طيبة مع الدول المجاورة مثل تركيا، واستمرّ بتوريد الكبتاغون إلى العديد من دول المنطقة، بما في ذلك الأردن، والسعودية.

والأهم من ذلك، لم يعد الأسد حليفًا موثوقًا بالنسبة لروسيا؛ فقد خذلها في العديد من الملفات بعد أن استثمرت به عسكريًا واقتصاديًا، وقدمت له دعمًا لا متناهيًا على الساحة الدولية.

لقد كان الأسد ابنًا عاقًا لموسكو، لكن مع ذلك لا يزال حلم القصاص بعيد المنال؛ فمن خلال مراجعة سريعة للتاريخ، يبدو جليًا أن موسكو لا تتخلَّى عن أبنائها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان