كان الصديق (رضي الله عنه) عالمًا بالأنساب، وله فيها الباع الطويل، قال السيوطي (رحمه الله تعالى): رأيت بخط الحافظ الذهبي (رحمه الله) من كان فرد زمانه في فنه.. أبو بكر في النسب (السيوطي، 1997، ص 100)، ولذلك استخدم الصديق هذا العلم الفياض وسيلةً من وسائل الدعوة؛ ليعلم كل ذي خبرة كيف يستطيع أن يسخر ذلك في سبيل الله، وعلى اختلاف التخصصات وألوان المعرفة، سواء كان علمه نظريًا، أو تجريبيًا، أو كان ذا مهنة مهمة في حياة الناس (السيوطي، 1997، ص 97).
وسوف نرى الصديق يصحب رسول الله ﷺ عندما عرض نفسه على قبائل العرب، ودعاهم إلى الله، ونرى كيف وظّف هذا العلم لدعوة الله، فقد كان الصديق خطيبًا مفوهًا له القدرة على توصيل المعاني بأحسن الألفاظ، وكان، رضي الله عنه، يخطب عن النبي، ﷺ، في حضوره، وغيبته، فكان النبي، ﷺ، إذا خرج في الموسم يدعو -أي أبو بكر- الناس إلى متابعة كلامه، تمهيدًا وتوطئةً لما يبلغ الرسول، معونة له، لا تقدمًا بين يدي الله ورسوله (ابن قاسم، 1996، ص 92).
ملازمة الصديق لرسول الله، ﷺ، وهذا جعله يفهم الإسلام بشموله، وهيأه الله، تعالى، بأن يصبح أعلم الصحابة بدين الله، فقد تعلم من رسول الله، ﷺ، حقيقة الإسلام، وتربى على يديه في معرفة معانيه، فاستوعب طبيعة الدعوة
وكان علمه في النسب ومعرفة أصول القبائل مساعدًا له على التعامل معها، فعن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: لما أمر الله، عز وجل، نبيه ﷺ أن يعرض نفسه على قبائل العرب؛ خرج وأنا معه.. إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر، فسلم، فقال: من القوم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله ﷺ وقال: بأبي أنت وأمي، ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غرر الناس، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم لسانًا وجمالًا، وكان له غديرتان تسقطان على تريبته، وكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف، ولن تغلب الألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى.. لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أن رسول الله ﷺ فها هو ذا.
فقال مفروق: إلامَ تدعونا يا أخا قريش؟! فقال رسول الله ﷺ: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني، وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد».
فقال مفروق: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش! فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا؟ فتلا رسول الله ﷺ قوله تعالى: ﴿قل تعالوا أتلُ ما حرَّم ربُّكم عليكم ألَّا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإيّاهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النَّفس التي حرَّم الله إلا بالحقِّ ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون﴾ [الأنعام: 151].
فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك، وظاهروا عليك، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! وإني أرى أن تركنا ديننا، واتباعنا دينك لمجلس جلسته إلينا، ليس له أول ولا آخر، لذلٌّ في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، إن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع، وترجع، وننظر. ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا، وصاحب حربنا.
فقال المثنى -وأسلم بعد ذلك-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا، ومتابعتنا دينك، وإنا إنما نزلنا بين صيريَين، أحدهما اليمامة، والآخر السمامة. فقال رسول الله ﷺ: «وما هذان الصيريان؟». فقال له: أما أحدهما؛ فطفوف البر، وأرض العرب، وأما الآخر، فأرض فارس، وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ألا نحدث حدثًا، ولا نؤوي محدثًا، ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب، فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان يلي بلاد فارس؛ فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، فإن أردت أن ننصرك مما يلي العرب؛ فعلنا.
فقال رسول الله ﷺ: «ما أسأتم في الرد؛ إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله -عز وجل- لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلًا حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله، وتقدسونه؟». فقال له النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك (ابن كثير، 1988، ص 3/143-145)!.
وفي هذا الخبر دروس، وعبر، وفوائد كثيرة منها:
- ملازمة الصديق لرسول الله ﷺ، وهذا جعله يفهم الإسلام بشموله، وهيأه الله، تعالى، بأن يصبح أعلم الصحابة بدين الله، فقد تعلم من رسول الله، ﷺ، حقيقة الإسلام، وتربى على يديه في معرفة معانيه، فاستوعب طبيعة الدعوة، ومر بمراحلها المتعددة، واستفاد من صحبته لرسول الله، ﷺ، وتشرب المنهج الرباني، فعرف المولى -عز وجل- من خلاله، وطبيعة الحياة، وحقيقة الكون، وسر الوجود، وماذا بعد الموت، ومفهوم القضاء والقدر، وقصة الشيطان مع آدم، عليه السلام، وحقيقة الصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان والكفر، وحُببت إليه العبادات، كقيام الليل، وذكر الله، وتلاوة القرآن، فسمت أخلاقه، وتطهرت نفسه، وزكت روحه.
- في رفقته لرسول الله، ﷺ، عندما كان، ﷺ، يدعو القبائل للإسلام استفاد الكثير، فقد عرف أن النصرة التي كان يطلبها رسول الله، ﷺ، لدعوته من زعماء القبائل منها أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بمعاهدات دولية تتناقض مع الدعوة ولا يستطيعون التحرر منها، وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه يعرضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطرًا عليها، وتهديدًا لمصالحها (هيكل، 1993، ص 1/412).
«إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه».. كان هذا الرد من النبي، ﷺ، على المثنى بن حارثة، حيث عرض على النبي حمايته على مياه العرب، دون مياه الفرس
إن الحماية المشروطة -أو الجزئية- لا تحقق الهدف المقصود، فلن يخوض بنو شيبان حربًا ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله، ﷺ، وتسليمه، ولن يخوضوا حربًا ضد كسرى لو أراد مهاجمة رسول الله، ﷺ، وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات (الغضبان، 1988، ص 53).
- «إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه».. كان هذا الرد من النبي، ﷺ، على المثنى بن حارثة، حيث عرض على النبي حمايته على مياه العرب، دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة يرى بعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى (الغضبان، 1988، ص 63).
- كان موقف بني شيبان يتسم بالأريحية، والخلق، والرجولة، وينم عن تعظيم هذا النبي، ﷺ، وعن وضوح في العرض، وتحديد مدى قدرة الحماية التي يملكونها، وقد بينوا: أن أمر الدعوة مما تكرهه الملوك، وقدر الله لشيبان بعد عشر سنوات أو تزيد أن تحمل هي ابتداءً عبء مواجهة الملوك، بعد أن أشرق قلبها بنور الإسلام، وكان المثنى بن حارثة الشيباني صاحب حربهم، وبطلهم المغوار الذي كان من ضمن قادة الفتوح في خلافة الصديق، فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد إسلامهم على قتال الفرس، بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس، ولا يفكرون في قتالهم، بل إنهم ردوا دعوة النبي، ﷺ، بعد قناعتهم بها؛ لاحتمال أن تلجئهم إلى قتال الفرس، الأمر الذي لم يكونوا يفكرون به أبدًا، وبهذا نعلم عظمة هذا الدين؛ الذي رفع الله به المسلمين في الدنيا، حيث جعلهم سادة الأرض مع ما ينتظرون في أخراهم من النعيم الدائم في جنات النعيم (الحميدي، 1998، ص 3/69) (الغضبان، 1998، ص 2/20).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.