شعار قسم مدونات

في أول خطوة نحو المجهول: ولادة أخرى!

من خلال إعادة تدوير نفايات البلاستيك والنايلون، يقوم رجل الأعمال التركي، يوسف أوزكان، بإنتاج الإكسسوارات ومواد الأثاث وتصديرها، ويهدف بهذه الصنعة إلى المساهمة بمبلغ 1 مليون دولار في اقتصاد بلاده بحلول نهاية العام الجاري. ودخل أوزكان قطاع الأثاث والإكسسوارات عام 1988، بعد أن عمل مع والده في إنتاج وبيع العلب البلاستيكية نحو 47 عاماً، ويقوم حاليا بتصدير منتجاته من الأثاث والإكسسوارات إلى 17 دولة حول العالم. وبدأ أوزكان بإنتاج أرجل الأثاث من البلاستيك عام 1980، لتقليل تكاليف العمالة والمساهمة في الاقتصاد الوطني. ( Ramazan Kaya - وكالة الأناضول )
في كل بداية شاقة -ربما- تكمن بركة غير مرئية، لا يفهمها إلا الذين ساروا بلا قناديل في الأزقة المعتمة (الأناضول)

لم يكن ثمة شيء استثنائي في ذلك الصباح، لا الغيم كان كثيفًا بما يكفي ليبشر بالمطر، ولا الشمس كانت ساطعة لتعد بيومٍ مجيد.. كان صباحًا باهت الملامح، كأن العالم كله احتبس أنفاسه، يرقبني من وراء زجاج شفاف وأنا أتهيأ لخطوتي الأولى.

رميت بنفسي إلى المجهول، بلا درع يحمي قلبي، بلا خريطة تشير إلى الاتجاهات الآمنة. لم يكن هناك سوى ارتجافة خفيفة في أطراف أصابعي، وارتعاشة خفية تسري في أعماقي، كأن جسدي كله صار ترجمانًا لخوفي، وفضولي في آنٍ واحد؛ تذكرت حينها عبارة فرانز كافكا: "الخطوة الحاسمة في التطور الروحي للبشرية هي الخروج من دائرة الأمان".

كل شيء بدا بسيطًا ومعقدًا معًا! حقيبتي كانت خفيفة، ولكن روحي مثقلة بما لا يُقال: بذكريات المدن القديمة، برائحة الأزقة التي تشبعت بها، بوجوه الذين أحببتهم وخذلوني، وبوجوه الذين مررت بهم كعابر ضوء ولم يشعروا بي.

مضيت.. المسافة بين خطوتي القديمة والأخرى الجديدة لم تكن أكثر من بضع خطوات على الأرض، لكنها في داخلي كانت مسافة بين حياتين، بين كائنٍ كنتُه وكائن آخر لا أعرف ملامحه بعد.

صوت دقات قلبي كان مرتفعًا، لا يغلبه سوى همس الأشياء من حولي: رفرفة طائر بعيد، أنين باب خشبي مهمل، وقع خطوات شخصٍ غريب تجاوزني دون أن يلتفت.

إعلان

في لحظةٍ غامضة، وأنا أعبر تلك العتبة غير المرئية، شعرت أن الهواء نفسه تبدل.. صار أكثر كثافة، وكأن العالم بأسره يفتح لي ذراعيه، لا ليحتضنني، بل ليختبرني.

في كل بداية شاقة -ربما- تكمن بركة غير مرئية، لا يفهمها إلا الذين ساروا بلا قناديل في الأزقة المعتمة. وكلما ابتعدت خطواتي عن الأرض الأولى، كان شيء بداخلي يتعرى أكثر، يتحرر من أثقاله القديمة

تقول نيلي غالان: "الحياة تبدأ حقًّا حيث تنتهي منطقة الراحة.. "تذكرت هذه المقولة، وتساءلتُ: ما الذي يجعلنا نخاف كل هذا الخوف من الجديد؟ أهو الحنين للألم الذي ألفناه، أم الرعب من احتمالات لا نتحكم بها؟

الذين يظنون أن الخطوة الأولى سهلة لم يعرفوا قط ما معنى أن تهجر ظلك القديم.. أن تخلع عنك جلد العادة، وتدخل عاريًا إلى حياة لا تستجيب لملامحك الأولى.

هناك، في مواجهة العراء التام، تعلمت درسي الأول: أن الشجاعة ليست غياب الخوف، بل اتخاذ القرار بالتحرك رغم حضوره الطاغي. كأن الكون، حين قررت أن أخطو، منحني صكًّا صغيرًا مخطوطًا بلغةٍ لا يقرؤها إلا القلب، كُتب عليه: "كل شيء كان ينتظرك أن تصل"! حتى الرياح التي صفعت وجهي، شعرت بها وكأنها كانت تحييني، لا تطردني.

في كل بداية شاقة -ربما- تكمن بركة غير مرئية، لا يفهمها إلا الذين ساروا بلا قناديل في الأزقة المعتمة. وكلما ابتعدت خطواتي عن الأرض الأولى، كان شيء بداخلي يتعرى أكثر، يتحرر من أثقاله القديمة، من الكلمات الثقيلة التي ألصقها بي العالم دون إذني، من النداءات التي طالما شدّتني إلى الوراء.

كنت أمشي وأنا أخسر الخوف شيئًا فشيئًا، وكأن الخسارة هنا، للمرة الأولى، كانت اكتمالًا لا نقصًا.. كانت عيناي تلتقطان تفاصيل صغيرة لم أكن أراها من قبل؛ عصفور وحيد يحلّق عكس الريح، وردة برية نبتت وسط رصيفٍ مهجور، ابتسامة غامضة على وجه عابر طريق.

لا تحتاج البدايات الكبرى إلى معجزة؛ يكفي أن تمد قدمك -ولو بارتجاف- نحو الأرض التي لم تعرفها روحك من قبل. سترتجف، ستتلعثم، ستخاف، ثم في لحظة شفافة ستعرف: لقد بدأت الحياة الآن

كل شيء بدا وكأنه رسالة، كأن الحياة كلها تتآمر بسرور خفي لتقول لي: "لقد تأخرت، لكنك وصلت". ومع كل خطوة، كنت أتذكر ما قاله أورهان باموق: "نحن نعيش حياتنا الحقيقية عندما نحلم بأشياء لم نعرف أننا نستطيع تحقيقها".. هذه المقولة جعلتني أفهم شيئًا إضافيًّا عن نفسي: أنني أقوى مما تصورت، وأن الأشياء التي كنت أراها جبالًا منيعة لم تكن سوى أطياف خوفٍ متخيل.. أن العالم ليس دائمًا أكثر قسوة مما نتوقع، بل أحيانًا أكثر رحابة مما تجرؤ مخاوفنا على تخيله.

إعلان

اليوم، حين أسير في شوارع لا تحمل لي ذكرى، أو أبتسم لغريب يمر بي كنسمة، أعلم أن تلك الخطوة الأولى لم تكن مجرد انتقال في المكان.. كانت ولادة أخرى، من ذاتي القديمة، إلى ذاتي التي كانت تنتظرني هناك منذ زمن بعيد.

أحيانًا، لا تحتاج البدايات الكبرى إلى معجزة؛ يكفي أن تمد قدمك -ولو بارتجاف- نحو الأرض التي لم تعرفها روحك من قبل. سترتجف، ستتلعثم، ستخاف، ثم في لحظة شفافة ستعرف: لقد بدأت الحياة الآن.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان